الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير: قال ابن عباس (ذلك الكتاب) هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف:
أقول له والرمح يأطر متنه * تأمل خفافا أنني أنا ذلكا أي أنا هذا، ومنه قوله تعالى - عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم - وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم - تلك آيات الله نتلوها عليك - ذلكم حكم الله يحكم بينكم - وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل:
هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق (لا ريب فيه) أي لا مبدل له، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي ". وفي رواية " سبقت ". وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل إشارة إلى قوله قبله ألم، ورجحه الزمخشري، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه، واسم الإشارة مبتدأ، والكتاب صفته، والخبر لا ريب فيه، ومن جوز الابتداء بالم جعل ذلك مبتدأ ثانيا، وخبره الكتاب أو هو صفته، والخبر لا ريب فيه، والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون المبتدأ مقدرا وخبره ألم وما بعده. والريب مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، وقيل إن الريب:
الشك. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافا. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي.
ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحا يقوم مقام البرهان المقتضي لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه، والوقف على " فيه " هو المشهور. وقد روى عن نافع وعاصم الوقف على لا ريب ". قال في الكشاف: ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ونظيره قوله تعالى - لا ضير - وقول العرب:
لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري:
وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي: الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى - ولكل قوم هاد - وقال - وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم - إنك لا تهدى من أحببت - فالهدى على هذا يجئ بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى - أولئك على هدى من ربهم - وقوله - ولكن الله يهدي من يشاء - انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس: وأصلها في اللغة قلة الكلام.
وقال في الكشاف: المتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية: الصيانة، ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجارها: إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شئ يؤلمه. وهو في الشريعة: الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن الكتاب: القرآن، لا ريب فيه: لا شك فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله " لا ريب فيه " قال: لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: الريب الشك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وكذا ابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله - هدى للمتقين - قال: نور للمتقين وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير