صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في شئ من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " وله طرق عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعا. فإن قلت: هل روى عن الصحابة شئ من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي؟ قلت: قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال ألم حرف اشتقت من حروف اسم الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله ألم وحم ون قال: اسم مقطع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضا في قوله، ألم، والمص، والر، والمر، وكهعيص، وطه، وطسم، وطس ويس، وص، وحم، وق، ون، قال: هو قسم أقسمه الله وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله ألم قال: هي اسم الله الأعظم. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله ألم قال: ألف مفتاح اسمه الله ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد. وقد روى نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد والحسن. فإن قلت: هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شئ من هذه الفواتح قولا صح إسناده إليه. قلت: لا لما قدمنا، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن قلت: هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ولا مدخل للغة العرب فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت: تنزيل هذا منزلة المرفوع، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوغا للوقوع في خطر الوعيد الشديد. على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيرا في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه، ثم ها هنا مانع آخر، وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكما لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملا بما هو مختلف متناقض ولا يجوز، ثم ها هنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شئ لما قالوه مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لو كان عندهم شئ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة أن لا يتكلم بشئ من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى - منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات - كلام طويل الذيول، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.
(٣٢)