المقذوف الستر على نفسه، وهو المشهور عنه. والسبب في اختلافهم: هل هو حق لله، أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين أجاز العفو، ومن قال لكليهما وغلب حق الامام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الامام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد؟ فلا خلاف أن الامام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب.
واختلفوا إذا تاب، فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم: هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور. وذلك في قوله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * فمن قال يعود إلى أقرب مذكور قال: التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته، ومن رأى أن الاستثناء يتناول الامرين جميعا قال: التوبة ترفع الفسق، ورد الشهادة. وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع: أي خارج عن الأصول، لان الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد. وأما بماذا يثبت؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين. واختلف في مذهب مالك: هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تبنى عليه فروعه. قال القاضي: وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة، التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك، لان إحصاء جميع الروايات عندي شئ ينقطع العمر دونه.
باب: في شرب الخمر والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرهم. واختلفوا في المسكرات من غيرها، فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد من شربها، قليلا كان أو كثيرا، أسكر أو لم يسكر، وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد.
وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب، فقال الجمهور: الحد في ذلك