ولفارس الأحرار أنفس أنفس * وفخارهم في عشرة معدوم وإذا أعاشر عصبة عربية * بدرت إلى ذكر الفخار تميم وبنو الأعاجم لا اخاذر منهم * شرا، فمنطق شرهم محسوم لا يبذخون على النديم إذا انتشوا * ولهم إذا العرب اعتدت تسليم وجميعهم لي، حين اقعد بينهم: * بتذلل وتهيب موسوم ويمكن ان نستنتج من هذه الأبيات أنه كان لأبي نواس جلساء على الشراب من الفرس يعرفون " مزاجه الخمري " هذا فيراعونه ولا ينغصونه بالتفاخر، بينما كان له جلساء من العرب، كالتميميين مثلا، يهيجون عنده " عقدة النسب " فيثيرونه... وقد عرفنا من قبل ان نسب الشاعر كان عرضة للغمز من جانب خصومه إذ كانت نسبته للحكم بن سعد العشيرة تتردد بين الأصالة والموالاة، وكان عصره لا يزال يعنى بالأنساب والتفاخر بها، وكانت النزعة الشعوبية تؤلف تيارا سياسيا يقابله تيار عربي، وكان الصراع السياسي الحاد يتخذ من هذين التيارين أحد أسلحته المكشوفة المباشرة، فليس غريبا - إذن - أن يتخذ خصوم كل شخص ذي شأن من قضية النسب ذريعة لايذائه والكيد له والتأليب عليه.
ثانيا - وأما الاستدلال على شعوبية أبي نواس بما كان من هجومه على الشعر الذي يصف البادية والاطلال وعلى حياة البادية وأهلها، فهو استدلال ضعيف أيضا، لأن الشعر الذي صدر عنه بهذا الصدد لا يحتمل التفسير بأنه صادر عن كراهية للعرب، بل يمكن تعليله بأحد أمرين:
1 - أما بأنه يرجع إلى " مزاجه الخمري " الذي تحدثنا عنه في ما سبق..
أي أن الرجل كان إذا جلس إلى شرابه وندمانه واستغرق في لذاته، وجد في دنياه تلك التي تنشئها له الخمرة دنيا عامرة بالضياء والصفاء فهي عنده أفضل من تلك الدنيوات التي يبنيها الشعراء الآخرون من أشياء البادية بخشونتها وشظفها ومشاهدها غير المؤتلفة مع أشياء الحضارة الجديدة بمتعها الحسية ونضارتها وجدتها، فتأخذه نشوة الاعتزاز بدنياه هذه وتلذه المقارنة وتستفز خياله طرافة المفارقة والمناقضة، ويجد في مقارنة النقيض بالنقيض ما يزيده أغرافا في الالتذاذ بدنياه...
2 - وأما بأنه كان يريد من هذا الشعر ان يهزأ بالشعراء الذين يعيشون في الحاضرة بلحمهم ودمهم، ثم يفتعلون انشاء عالم آخر في أشعارهم ليس بينهم وبينه من صلة غير صلة الألفاظ والقوالب الشعرية التقليدية المتوازنة عن شعراء سابقين كانوا يحيون حياة البادية فعلا، وكانت مشاهد البادية تدخل في تجاربهم الحية الحارة.
على انني أرجح ان الأمر الأول من هذين الأمرين هو التفسير الأقرب لواقع أبي نواس بالذات.
ثالثا - واما استدلال أحمد أمين على شعوبية الشاعر بما استظهره من كلامه عن أبي عبيدة والأصمعي العربي فهو استدلال ينقضه أحمد أمين نفسه بما نقله عن أبي نواس في مكان آخر من " ضحى الاسلام " (ج 3 ص 119 120) قائلا ما لفظه: " ولكن أبا نواس لا يعتد بهجوه، فليس في هجائه مقياس الصدق، فقد هجا أبا عبيدة رماه باللواط الخ...
فكيف يعتد أحمد أمين، إذن، بكلام قاله أبو نواس عن أبي عبيدة والأصمعي ويجعله دليلا على شعوبيته، في حين ان ذاك الكلام ليس ظاهرا بالتحيز لأبي عبيدة، بينما هو - أي أحمد أمين - لا يعتد هنا بهجاء أبي نواس بحجة أنه ليس في هجائه مقياس الصدق.
نحن مع أحمد أمين في أن هجاء أبي نواس ليس مقياس الصدق، وكذلك مدحه... ولذلك قلنا سابقا أنه لا يصح الاستنتاج من مدحه الفرس وذمه العرب أحيانا انه يؤثر الفرس على العرب، كما لا يصح الاستنتاج من مدحه العرب وذمه الفرس أحيانا أخرى انه يكره الفرس ويؤثر عليهم العرب... فهو في مدحه وهجائه انما يصدر عن بدوات سانحة وليد اللحظة التي هو فيها، ولا يصدر عن نزعة معينة ثابتة ولا عن فكرة أو فلسفة مقررة عنده.
إضافة إلى ما تقدم يمكن الرد على استدلال أحمد أمين بطريقة ثانية، هي ان الجاحظ نفسه، وهو ابن العربي الذي لا شك بعروبته ولا مجال لاتهامه بالشعوبية قال في أبي عبيدة ما هو أصرح من كلام أبي نواس فيه... قال أبو عثمان الجاحظ: " لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة "... فلماذا يؤخذ كلام أبي نواس انه تحيز شعوبي لأبي عبيدة، ولا يؤخذ كلام الجاحظ كذلك بالرغم من أن المأخذ على كليهما غير منطقي.
ولقد وجد بين النقاد المحدثين من نفى عن أبي نواس نزعة الشعوبية، وان اختلفوا في تعليل الأشعار التي استظهر منها القدماء والمحدثون المقلدون هذه النزعة عنده.
ومن هؤلاء النقاد المحدثين العقاد والدكتور محمد النويهي، الأول في كتابه " أبو نواس الحسن بن هانئ - " دراسة في التحليل النفساني والنقد التاريخي "، والثاني في كتابه " نفسية أبي نواس ". وقد علل الدكتور النويهي أشعاره التي أثارت تهمة الشعوبية بنحو من التعليل الذي أشرنا إليه سابقا، إي بتأثير " مزاجه الخمري " وعقب على شرحه التعليل المذكور بقوله:...
" وكان هذا هو السبب الذي كرهه في منادمة العرب لا لأنه يتعصب عليهم تعصبا شعوبيا كما اتهمه الكثيرون، فأبو نواس ما أحب أن يعادي فردا أو جنسا، وما كان يطيق نكد المعاداة، ولكن شكا طباعهم وضراوتهم وكثرة مخاصماتهم وتنابذهم بالألقاب وتفاخرهم بالانتساب كلما ضمهم مجلس، بقية من عنجهيتهم البدوية - كأن تعكر عليه مجالسه الهنيئة الخ... ".
وبعد ان يورد الدكتور النويهي أمثلة من شعر الشاعر تدل على ذلك يورد الأبيات التي ذكرناها سابقا:
- ولفارس الأحرار أنفس أنفس الخ...) ثم يقول: "... اما المهذبون المتحضرون من العرب فلم يكن لديه - إي أبي نواس - أدنى مانع من منادمتهم، وله قطع كثيرة في امتداح مجالسهم وحلاوة شمائلهم وقد قال على لسان الخمر هذا البيت الأريحي الطرب:
ولا الأراذل، الا من يوقرني * من السقاة، ولكن اسقني العربا.
والترجمة المنشورة في مكانها كان المؤلف قد أصدرها في كتاب خاص باسم (أبو نواس)، وعند صدور الكتاب سنة 1948 كتب عنه الدكتور حسين مروة كلمة آثرنا نشرها هنا انتهى.
مسكين أبو نواس! لقد افترى عليه صانعو التاريخ أو لقد افترى عليه ناس غير صانعي التاريخ لأمر ما فأشاعوا في الأجيال أن أبا نواس رجل دعابة وعربدة وشهوة ليس غير وأن خصائصه جميعا تنتهي عند هذا " الثالوث " لا تتجاوزه إلى صفة من صفات العباقرة المرموقين في عصر من أرقى عصورنا العربية الغابرة، حتى لقد بخل عليه هؤلاء المفترون بمزيته الكبرى: الشعر، فإذا هم يلفقون عليه ألوانا من الكلام المنظوم لو كان قدر لأبي نواس أن يسمع أمثاله لغيره لاجتوت نفسه دنيا يقال فيها هذا اللون من الكلام الغث ثم يحسب هذا الكلام شعرا من الشعر فكيف له لو أنصت للأجيال بعده فإذا هو يسمع هذا الكلام منسوبا إليه مدخولا عليه مدسوسا في أعاجيب من القصص التافه الخليع يقصونها عنه افتراء وزورا؟!