ثم رأى أن العكوف على باب هذا الممدوح وحده، واجتداء كفه دون غيره من الأكف لا يحقق مطامحه والطموح أشكال، فهو كما يكون في معالي الأمور يكون كذلك في الكدية، وهنا يكون الشاعر قد عرف طريقه وابتدأ رحلة الكدية الطويلة التي استمرت طيلة حياته.
فقد قرر أن (يعكف) على أبواب أوسع وأن يجتدي اكفا أكثر امتلاء وكان أقرب بلد إليه هو الأردن، وكان قد علم أن أميرا جاءها (هو الأمير عبد الله) وأنه أنشأ حكما جديدا فصمم على الذهاب إليه وأخذ يمدحه بمثل قوله:
فوق السرير ولا أدري به ملك * يدري به الحزم والاقدام والشمم بل سيد في حشا الجوزاء صارمه * يفري وفوق السها تجري به قدم يا صاعدا خفقت للمجد ألوية * عليه لما جرت من تحته الديم أقمت (رغدان) حيث النجم يحسده * ولحت في أفقه فانجابت الظلم وسمت آناف من شف الضنا حسدا * جسومهم وبغير الجود لا تسم مررت بالروض فاعتل النسيم به * وكاد يقطر من أكمامه الكرم (1) وصحت نبؤة الشاعر فأصبح (الأمير) بعد ذلك (ملكا) ولكن لم يصح فيه ما ادعاه له بان صارمه يفرى في حشا الجوزاء، وأنه تجرى به قدم فوق السها، فالأمير عبد الله كان أضعف وأقل شانا من أن تكون له هذه الصفات، وقصر رغدان كان من التواضع بحيث لا يحسده النجم ولا أحسب كذلك أن أحدا كان يحسد عبد الله على ما كان فيه.
ونلاحظ هنا كما لاحظنا من قبل أن التركيز هو دائما على (الجود) و (الكرم)، لأنهما هما وحدهما اللذان يحققان للشاعر مطامعه.
ولا يخجل هذا الشاعر من أن يقول بان خير أيامه هو يوم يكون على مائدة الأمير، وهكذا يكون قد انحدر بالكدية إلى أحط دركاتها فهي ليست كدية في اجتناء المال فقط بل هي كدية باجتناء الطعام أيضا:
أفضل أيام حياتي التي * أنشدها يومي على المائدة مائدة كف أبي نايف * تملي عليها سورة المائدة معبودة الأيدي فان أومأت * خرت أيادينا لها ساجدة خولها فرط الندى مرفقا * قد وصل الحمد به ساعده (2) ويذكرنا هذا الشعر بشعر لابن الرومي يصف به أحد الطفيليين وكأنما عنى به الحوماني:
يلين الطعام على ضرسه * ولو كان من صخرة جامدة ويأكل زاد الورى كله * ولكنها اكلة واحدة ولو عاينته جحيم الاله * لخرت لمعدته ساجدة وهناك قصيدة في الأمير عبد الله تحسب وأنت تقرأها أنها نظمت في بطل من أبطال العرب سما إلى الملك بجهاد وطني طويل، لا في أمير مسكين جاء به الإنكليز واقطعوه رقعة صغيرة كانت في يوم من الأيام (قائم مقامية)، فعاش فيها لا حول له ولا طول، على أنه تنبأ له الشاعر في هذه القصيدة بأنه سيحمل لقب الملك كما تنبأ في قصيدة تقدمت وصحت النبؤة كما قلنا. ومن المضحك وربما من المبكي تلك الصفات التي أغدقها على الأمير بأنه من عزت به (مضر) وأنه (جبرئيل) تحف به الملائكة وأن العلى صافحت به قمرا إلى غير ذلك:
كيف لا تزهى منازلنا * وعليها أشرق القمر وطأتها وهي خاشعة * رجل من عزت به مضر مرحبا بالروح (3) تعضده * من ملائكة السما زمر رد مغانيه ترد ملكا * وشيه الماذي لا الحبر حيثما حلت ركائبه * فهناك الظل والثمر صافحت منه العلى قمرا * تجتليه البدو والحضر وتعالى في أسرتها * ملكا اكليله الظفر (4) هكذا كانت تمضي مدائح الحوماني في الأمير عبد الله ملقا واستجداء وكدية. ويبدو واضحا أن أعطيات الأمير لم تمنع الحوماني من أن يعرج بين الحين والحين على بعض من يتوسم فيهم العطاء من الأردنيين فيمدحهم كهذا الذي نظمه مثلا في أديب وهبه مدير معارف الأردن:
هل قدروا لك اعمالا برتك بها * يد العناية بري النصل للقلم حسب المعارف ان أصبحت ناظرها * والشمس في الأفق غير النار في العلم (5) وهذا الذي نظمه في ذوقان الحسين، وفيه يفاخر بتناوله الحلوى على مائدته، ويبدو أنه كان كثير الشغف بولوج موائد الناس والتغني بهذه الموائد التي كان يسعى إليها سعيا، وأنه كان لا يخجل بذلك، والدليل على هذا تخصيصه لها بالقصائد ونشر تلك القصائد في ديوانه:
في مجلس (ذوقان) نظم شمله * من نابهين بهم أنار المجلس نتناول (الحلوى) على أنواعها * وتدار سائغة علينا الأكؤس (6) ومن انفعاله بتناول الحلوى يحرص على أن يذكر انها لم تكن نوعا واحدا بل هي أنواع، ومن المضحك الباعث على الاحتقار الذي يستحقه هذا الشاعر تشديده على أن الحلوى كانت أنواعا، فكم هو تافه من يتغنى بتناول الحلوى على موائد الناس... ثم هذا الجهر المصحوب بالتباهي بأن الأكؤس كانت تدار سائغة، وهكذا فالذي ينطقه بالشعر ويجعل يومه أفضل الأيام هو التهامه الطعام على مائدة الأمير، ثم تناول الحلوى على أنواعها على خوان ذوقان الحسين، وحسب الشعر مهانة ان المائدة والخوان هما ملهماه.
واحسب أن هذه هي المرة الثانية التي يذكر فيها شاعر الحلوى في شعره فقد ورد في شعر قديم لشاعر من شعراء الطفيليين قوله من قصيدة طفيلية:
قل لأهل التطفيل اني امام * لكم بين شيبكم والشباب لا أبالي حللت بالسادة القادة * أم بالعلوج والأعراب فتراني ألف بالرغم منهم * كل ما قدموه لف العقاب قابل أن جرى على امتهان * في سبيل الحلواء والحوذاب ويبدو التقارب ما بين هذا الشاعر وبين الحوماني، فكما أن الأول لا يهمه