الاحتياجات المتطورة والتعاطي مع المتغيرات المتسارعة في إيران والعالم. ان كل تلك الضرورات والمعطيات انعكست وتجلت بوضوح في الميدان الثقافي والفني.
وفي هذه المرحلة نشاهد أن فن الرسم يلتفت إلى الموضوعات الانسانية ضمن حدود معينة، فنجد ذلك مثلا في لوحة تصور أحد المصريين وقد أنجزت بعد لوحة (تالار آئينه) أما قبل زمن انجاز هذه اللوحة فثمة لوحة " الصيادون " و " الشحاذتان ". أما آخر عمل أنجزه كمال الملك يحمل امضاء ال " النقاشباشي " فهو لوحة (الفوال) سنة (1309 ه) وهي تعد أرقى عمل قدمه كمال الملك إلى ذلك الوقت حيث تبرز قدرته على الاستيحاء من الطبيعة و ضلوعه في استخدام الألوان فقد رسمت شخصيات اللوحة بنحو جيد من حيث الترابط المنطقي والانسجام فيما بينها. وقد عرضت هذه اللوحة لاحقا في أحد معارض الرسم في باريس واختيرت من بين كل اللوحات المعروضة كأفضل عمل فني فنالت الجائزة الأولى.
في سنة 1301 تزوج كمال الملك وهو في سن السابعة والثلاثين ورزق بنتا وثلاثة أولادهم: نصرت خانم، معز الدين خان، حسنقلي خان، وحيدر قلي خان، وقد كان له أخ يدعى أبا تراب يكبره بثلاث سنوات وكان رساما أيضا تعود إليه تلك الرسوم واللوحات المنشورة في صحيفة (شرف وشرافت) والتي تحمل امضاء (أبو تراب).
المرحلة الثانية لقد فتحت أوروبا عالما جديدا أمام كمال الملك واستفاد من احتكاكه وصداقاته لكبار الفنانين حيث اكتسب المزيد من التجارب واتسع مدى أفقه الفني وأتيح له أن يطل على دنيا واسعة أكبر من أن توصف وخلال رحلة بحثه في فن الرسم وعلومه استطاع كمال الملك أن يزور كل متاحف أوروبا وضمن تلك الرحلة فتن ب (رامبراند) رسام القرن السابع عشر، لقد لاحظ كمال الملك في أعمال هذا النابغة الهولندي آثارا وعلامات للعرفان الشرقي فانجذب نحوها بشدة، وكان يقول: " تكمن في لوحات رامبراندوتيسين القوة والروح والفن ". لقد تعلم كمال الملك علوم الرسم من مطالعاته لآثار رامبرند، نيسين، رافائيل، روبنس، انديك وليوناردو دافينشي: وكانت تتم دراساته تلك وتعلمه لفنونهم من خلال استنساخه لأعمالهم وتجزئتها بحضور الرسامين الكبار لتلك المرحلة في أوروبا.
فقد درس كمال الملك لوحة سان ماتيورا في متحف اللوفر بباريس، كما درس لوحة رامبراند واستنسخها في قصر بيتي بإيطاليا.
وقد تعرف كمال الملك في فرنسا على الرسام الشهير في ذلك الوقت فونتين لاتور فكان ثمرة هذه المعرفة لوحة رسمها الأستاذ هي عبارة عن صورة ذلك الفنان الفرنسي الذي كان يصف كمال الملك بالشعلة القادمة من إيران ويدعو تلاميذه للاستفادة منه فيقول: " انظروا إلى هذه الشعلة القادمة من إيران، واستفيدوا من لهيبها وحرارتها الخلافة ".
يقول (بن زور) رئيس مدرسة ميونخ وأحد كبار الرسامين في أوروبا: إن كمال الملك هو أفضل وأكبر ناسخ لآثار ونتاجات أساتذة الفن الكلاسيكي الأوروبي.
ثمة أقوال مختلفة حول مدة إقامة الأستاذ في أوروبا وليس هناك اتفاق على رأي موحد في هذا الشأن بل تردد القول حول طوال سفره بين 3 أو 4 أو 5 سنوات وأقوى تلك الأقوال وأكثرها سندا هي تلك التي تذهب إلى أن كمال الملك اتجه إلى أوروبا سنة (1314) وعاد منها سنة (1319) إلى إيران...
وكان محصلة هذه السنوات الخمس على صعيد الانتاج الفني 12 لوحة أكثرها كان عبارة عن استنساخ لأعمال كبار رسامي أوروبا عهدئذ.
وتدل تلك اللوحات على أن كمال الملك طوى خلال السنوات الخمس طريقا عاليا واكتشف آفاقا جديدة في نفسه. فقد تطورت تقنياته الفنية ونضجت مقدرته وازدادت رؤيته عمقا ودقة، وصار أكثر دراية ومعرفة بالألوان وخطوط الربط ومفاصل اللوحة الفتية والتي تعتبر روح عملية الرسم وبنية هيكله الفني، كما منحه حضوره المباشر في تجارب عباقرة الفن وأساطينه وفطاحله فرصة الاتصال القريب باسرار هذا الفن وحقائقه فتبين وسط ذلك المحيط الخلاق المكان الواقعي للطبيعة والحياة في دنيا الفن.
المرحلة الثالثة وعند ما عاد كمال الملك إلى طهران كان يحمل معه روحا تفيض بالحيوية وقلبا مفعما بالنشاط ونابضا بالرجاء والأمل... غير أنه وجد جوا ثقيلا راكدا ومحيطا باهتا في طهران لا يلبي طموحاته ولا يستوعب حركة هذا النسر الذي يريد أن ينطلق ويحلق في دنيا الفن كالأساطير. وكانت ظروف إيران عهدئذ غير ملائمة لنمو الفن ورشده فقد أوصلت هذه الظروف المضطربة السيئة الأشكال الأصيلة لفنون المينة إلى الحضيض، ومن الطبيعي لفنان كالأستاذ كمال الملك الذي يجد حياته ورزقه في فنه، أن لا يجد في تلك الأجواء عوامل الهدوء والاطمئنان والسكينة والرضى. وقد كانت عودته في زمن السلطان مظفر الدين شاه القاجاري حيث كان يوصي كمال الملك بانجاز اعمال لا تنسجم مع ذوقه ومزاجه الفني مما كان يبعث الضيق في نفس هذا الفنان إذ أن الفن يختنق ويفقد خلاقيته عندما يخضع لجو القهر والأوامر المفروضة. وقد وجد كمال الملك نفسه وسط امراء السلطان مظفر الدين شاه ورجاله الذين لا يدركون من مضمون الفن شيئا ولا يعرفون حقيقة مكانة الفنان، فكانوا يطلبون منه أمورا لا تهدف سوى إلى إرضاء رغباتهم في التفاخر والتمايز ويكلفونه بأعمال سطحية وسخيفة بحيث أنه لو أراد مسايرتهم وانجاز ما يريدون لصار كمن يجعل من الرسام مسخرة وأضحوكة. ولذا فقد دفع هذا الجو المفعم بتلك السلبيات إلى جانب الوضع غير البناء في بلاط مظفر الدين شاه دفع بكمال الملك إلى العصيان والفرار إلى بغداد حيث مكث فيها مدة وأنجز فيها اعمالا فنية مختلفة. فرسم لوحات: (اليهود المنجمون البغداديون) و (الصائغ البغدادي) وتمتاز هذه اللوحات بدرجة عالية من الاتقان في التركيب وبمقارنة هاتين اللوحتين بأعمال الأستاذ السابقة لسفره إلى أوروبا نكتشف التطور الهائل في مقدرته الفنية وفكره، ونلمس فيها نظرته إلى واقع المجتمع في بعده الطبقي.
عاد كمال الملك من بغداد إلى إيران في سنة (1312 ه) فعاود السلطان طلباته إليه ليمارس عمله في رسم اللوحات التي يمليها عليه إلا أنه اعتذر متذرعا بأنه يعاني من رعشة في يده. وقد زامنت عودته ظهور حركة المشروطة وتصاعدها فكان أن ساهم فيها وكتب عدة مقالات في ذلك نشرت له على صفحات جرائد الوقت.