منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور فقالوا: تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة: إن الآية خبر في معنى الأمر: أي ومن دخله فأمنوه كقوله - علا رفث ولا فسوق ولا جدال - أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. قوله (والله على الناس حج البيت) اللام في قوله (لله) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف (على) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. وقوله (من استطاع إليه سبيلا) في محل جر على أنه بدل بعض من الناس. وبه قال أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج. والتقدير:
أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا، وقيل إن من حرف شرط، والجزاء محذوف: أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج. وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل الزاد والراحلة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم وهو الحق. قال مالك: إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد وراحلة إذا كان يقدر على التكسب، وبه قال عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة، لأن الله سبحانه يقول (من استطاع إليه سبيلا) وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلا بلا شك ولا شبهة. وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج، فقال الشافعي: لا يعطى حبة، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة وخالفه آخرون.
والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شئ من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه لأنه قد استطاع السبيل بدفع شئ من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون، ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع. ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل. قوله (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه، وقيل المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا، وقيل إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله (فإن الله غني عن العالمين) من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غنى لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله (إن أول بيت) الآية، قال: كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: " قلت