والهدى والهدي لغتان، وهما جمع هدية، وهي ما يهدي إلى البيت من بدنة أو غيرها. قال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدى، وتميم وسفلى قيس يثقلون. قال الشاعر:
حلفت برب كعبة والمصلى * وأعناق الهدي مقلدات قال: وواحد الهدى هدية، ويقال في جمع الهدى أهد. واختلف أهل العلم في المراد بقوله (ما استيسر) فذهب الجمهور إلى أنه شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة. وقال الحسن: أعلا الهدى بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة، وقوله (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم - وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة:
أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدى الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، وهو الموضع الذي يحل فيه ذبحه. واختلفوا في تعيينه، فقال مالك والشافعي: هو موضع الحصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أحصر في عام الحديبية. وقال أبو حنيفة: هو الحرم لقوله تعالى - ثم محلها إلى البيت العتيق - وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت. وأجاب الحنفية عن نحره صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، ورد بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم. قوله (فمن كان منكم مريضا) الآية، المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة. والمراد بالأذى من الرأس: ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك، ومعنى الآية: أن من كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية. وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك، فثبت في الصحيح " أن رسول الله رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام ". وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو شاة. وحكى عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام لستة مساكين.
وروى عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين.
والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ويبطل قولهم. وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي لكل مسكين وقال الثوري نصف صاع من بر أو صاع من غيره. وروى ذلك عن أبي حنيفة. قال ابن المنذر: وهذا غلط لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين. واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل، فروى عنه مثل قول مالك والشافعي، وروى عنه أنه إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع. واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وبه قال أصحاب الرأي. وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء. وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع، وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان. قوله (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) أي برأتم من المرض - وقيل من خوفكم من العدو على الخلاف السابق، ولكن الأمن من العدو أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض، فيكون مقويا لقول من قال إن قوله (فإن أحصرتم) المراد به الإحصار من العدو، كما أن قوله (فمن كان منكم مريضا) يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر. وقد وقع الخلاف هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف، والمراد بالتمتع المذكور في الآية أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالا بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك