وقيل (روح منه) أي رحمة منه، وقيل (روح منه) أي برهان منه، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه. وقوله (منه) متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ (فآمنوا بالله ورسله) أي بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله (ولا تقولوا ثلاثة) ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج: أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله - سيقولون ثلاثة - وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح.
وقيل المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا.
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة أو الإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام.
وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شئ، ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام. وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. قوله (انتهوا خيرا لكم) أي انتهوا عن التثليث، وانتصاب " خيرا " هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله (فآمنوا خيرا لكم). (إنما الله إله واحد) لا شريك له صاحبة ولا ولد (سبحانه أن يكون له ولد) أي أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد (له ما في السماوات وما في الأرض) وما جعلتموه له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا (وكفى بالله وكيلا) نكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: " إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، قالوا ما نعلم ذلك.
فأنزل الله (لكن الله يشهد) الآية " وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول الحوراء لم يقربها بشر، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا.