ليؤمنن به قبل موته، والضمير في به راجع إلى عيسى، والضمير في موته راجع إلى ما دل عليه الكلام، وهو لفظ أحد المقدر أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودي أو نصراني إلا وقد آمن بالمسيح، وقيل كلا الضميرين لعيسى، والمعنى: أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابي في عصره، وقيل الضمير الأول لله، وقيل إلى محمد، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وقال به جماعة من السلف وهو الظاهر، والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة (ويوم القيامة يكون) عيسى على أهل الكتاب (شهيدا) يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلو فيه حتى قالوا هو ابن الله.
وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) إلى (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله (يسألك أهل الكتاب) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (أرنا الله جهرة) قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال: هو مقدم ومؤخر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله (ورفعنا فوقهم الطور) قال: جبل كانوا في أصله فرفعه الله فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به، فقالوا نأخذه فامسكه الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) قال: رموها بالزنا. وأخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال أنا، فقال: أنت ذاك فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا، فأنزل الله عليه - فآمنت طائفة من بني إسرائيل - يعني الطائفة التي آمنت في زمن عيسى - وكفرت طائفة - يعني التي كفرت في زمن عيسى - فأيدنا الذين آمنوا - في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين. قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وصدق ابن كثير، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح. وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد وابن جرير عن وهب ابن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس