الشهر الحرام كذا قال المبرد وغيره، والضمير في قوله (وكفر به) يعود إلى الله - وقيل يعود إلى الحج. وقال الفراء: إن قوله (وصد) عطف على كبير، والمسجد عطف على الضمير في قوله (وكفر به) فيكون الكلام منتسقا متصلا غير منفصل. قال ابن عطية: وذلك خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله (وكفر به) أي بالله عطف أيضا على كبير، ويجئ من ذلك أن إخراج أهل المسجد من أكبر من الكفر بالله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور: أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله، ومن الصد عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرما عند الله. والسبب يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
والمراد بالفتنة هنا الكفر: أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل المراد بالفتنة: الإخراج لأهل الحرم منه، وقيل المراد بالفتنة هنا فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا: أي فتنة المستضعفين من المؤمنين أو نفس الفتنة التي الكفار عليها. وهذا أرجح من الوجهين الأولين، لأن الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما وأنهما مع الصد أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقوله (ولا يزالون) ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم، والتقييد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم عليه، ثم حذر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار والدخول فيما يريدونه من ردهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) إلى آخر الآية والردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بقوله (فيمت وهو كافر) يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر. وحيط: معناه بطل وفسد، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. ومعنى قوله (في الدنيا والآخرة) أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا، فلا يأخذ شيئا مما يستحقه المسلمون، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئا من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله. وقد اختلف أهل العلم في الردة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر، والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد. وقد تقدم الكلام في معنى الخلود. قوله (وهاجروا) الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وترك الأول لإيثار الثاني، والهجر ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع والمراد بها هنا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والمجاهدة: استخراج الجهد، جهد مجاهدة وجهادا، والجهاد والتجاهد: بذل الوسع. وقوله (يرجون) معناه يطمعون، وإنما قال: يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ. والرجاء الأمل، يقال: رجوت فلانا أرجو رجاء ورجاؤه. وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى - مالكم لا ترجون لله وقارا - أي لا تخافون عظمة الله.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى شوقا وصبابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس فبعث مكانه عبد الله بن جحش