فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان " أي المال وقوله " من بين فرث ودم لبنا خالصا " أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته فيصرف منه دم إلى العروق ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة وروث إلى المخرج وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به وقوله " لبنا خالصا سائغا للشاربين " أي لا يغص به أحد. ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ولهذا امتن به عليهم فقال " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا " دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل كما جاءت السنة بتفصيل ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك كما قال ابن عباس في قوله " سكرا ورزقا حسنا " قال السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما وفي رواية السكر حرامه والرزق الحسن حلاله يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الانسان ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها قال الله تعالى " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ".
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (69) المراد بالوحي هنا الالهام والهداية والارشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون ثم هي محكمة في غاية الاتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتبني الشمع من أجنحتها وتقئ العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها ثم تصبح إلى مراعيها وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم " فاسلكي سبل ربك ذللا " أي مطيعة فجعلاه حالا من السالكة قال ابن زيد وهو كقول الله تعالى " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم؟ والقول الأول هو الاظهر وهو أنه حال من الطريق أي فاسلكيها مذللة لك نص عليه مجاهد وقال ابن جرير كلا القولين صحيح وقد قال أبو يعلى الموصلي حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمر الذباب أربعون يوما والذباب كله في النار إلا النحل " وقوله تعالى " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله " فيه شفاء للناس " أي في العسل شفاء للناس أي من أدواء تعرض لهم قال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء ولكن قال فيه شفاء للناس أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة فإنه حار والشئ يداوى بضده وقال مجاهد وابن جرير في قوله " فيه شفاء للناس " يعني القرآن وهذا قول صحيح في نفسه ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وقوله تعالى " يا أيها الناس