الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " الآية " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " الآية كما سيأتي في حديث كعب بن مالك وقوله " إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك ولكن رحمته تغلب غضبه " والله عليم حكيم " أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه.
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للاسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عز وجل وكانت العاقبة للمتقين وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال " إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض اليوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس في أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية هم أناس من الأنصار بنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فأتي بجند من الروم وأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فأنزل الله عز وجل " لا تقم فيه أبدا " إلى قوله