ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى - ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج فقال " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " أي في سورة الأنعام في قوله " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما - إلى قوله - لصادقون " ولهذا قال ههنا " وما ظلمناهم " أي فيما ضيقنا عليهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي فاستحقوا ذلك كقوله " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " قال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل " ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات " إن ربك من بعدها " أي تلك الفعلة والزلة " لغفور رحيم ".
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا " فأما الأمة فهو الامام الذي يقتدى به والقانت هو الخاشع المطيع والحنيف المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال " ولم يك من المشركين " قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت فقال الأمة معلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال أخبرني عن الأمة فقال الذي يعلم الناس الخير وقال الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي غلط أبو عبد الرحمن وقال إنما قال الله " إن إبراهيم كان أمة " فقال تدري ما الأمة وما القانت؟ قلت الله أعلم. فقال الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير وقال مجاهد أمة أي أمة وحده والقانت المطيع وقال مجاهد أيضا كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار وقال قتادة كان إمام هدى والقانت المطيع لله وقوله " شاكرا لأنعمه " أي قائما بشكر نعم الله عليه كقوله تعالى " وإبراهيم الذي وفي " أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به وقوله " اجتباه " أي اختاره واصطفاه كقوله " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " ثم قال " وهداه إلى صراط مستقيم " وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي وقوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة " وإنه في الآخرة لمن الصالحين ". وقال مجاهد في قوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " أي لسان صدق.
وقوله " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا " أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء " أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " كقوله في الانعام " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " ثم قال تعالى منكرا على اليهود.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (124)