ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم (60) يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نصيبا مما رزقهم الله فقالوا " هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " أي جعلوا لآلهتهم نصيبا مع الله وفضلوها على جانبه فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال " تالله لتسئلن عما كنتم تفترون " ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وجعلوها بنات الله فعبدوها معه فأخطأوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا ولد له ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم كما قال " ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى " وقوله ههنا " ويجعلون لله البنات سبحانه " أي عن قولهم وإفكهم " ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون " وقوله " ولهم ما يشتهون " أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فإنه " إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا " أي كئيبا من الهم " وهو كظيم " ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن " يتوارى من القوم " أي يكره أن يراه الناس " من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب " أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ويفضل أولاده الذكور عليها " أم يدسه في التراب " أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ " ألا ساء ما يحكمون " أي بئس ما قالوا وبئس ما قسموا وبئس ما نسبوه إليه كقوله تعالى " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ضل وجهه مسودا وهو كظيم " وقوله ههنا " للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء " أي النقص إنما ينسب إليهم " ولله المثل الاعلى " أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه " وهو العزيز الحكيم ".
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب إن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62) يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لاهلاك بني آدم ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال:
كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ الآية " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه قال فالتفت إليه فقال: بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين أنبأنا الوليد بن عبد الملك حدثنا عبيد الله بن شرحبيل حدثنا سليمان بن عطاء عن سلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده