على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في الانسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشئ أفضل من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ". فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل فلا يسمع إلا لله ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل مستعينا بالله في ذلك كله ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها " فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ". ولهذا قال تعالى " وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون " كقوله تعالى في الآية الأخرى " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون * قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون " ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك وسخر الهواء يحملها وبسير الطير ذلك كما قال تعالى في سورة الملك " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير " وقال ههنا " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ".
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81) فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83) يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لم يأوون إليها ويستترون بها وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع وجعل لهم أيضا من جلود الانعام بيوتا أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال " تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها " أي الغنم " وأوبارها " أي الإبل " وأشعارها " أي المعز والضمير عائد على الانعام " أثاثا " أي تتخذون منه أثاثا وهو المال وقيل المتاع وقيل الثياب والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ويتخذ مالا وتجارة وقال ابن عباس الأثاث المتاع وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة وقوله " إلى حين " أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم وقوله " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " قال قتادة يعني الشجر " وجعل لكم من الجبال أكنانا " أي حصونا ومعاقل كما " جعل لكم سرابيل تقيكم الحر " وهي الثياب من القطن والكتان والصوف " وسرابيل تقيكم بأسكم " كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك " كذلك يتم نعمته عليكم " أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته " لعلكم تسلمون " هكذا فسره الجمهور وقرأوه بكسر اللام من " تسلمون " من الاسلام وقال قتادة في قوله " كذلك يتم نعمته عليكم " هذه السورة تسمى سورة النعم وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام بن حنظلة السدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه كان يقرؤها