والمؤمنين بالسعادة فأولئك كالأعمى والأصم وهؤلاء كالبصير والسميع فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " الآية وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل فيتبع الخير ويترك الشر سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه باطل فهل يستوي هذا وهذا؟ " أفلا تذكرون " أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال في الآية الأخرى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " وكقوله " وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحور وما يستوي الاحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ".
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26) فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) يخبر تعالى عن نوح عليه السلام وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه " إني لكم نذير مبين " أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ولهذا قال " أن لا تعبدوا إلا الله " وقوله " إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذابا أليما موجعا شاقا في الدار الآخرة " فقال الملا الذين كفروا من قومه " والملا هم السادة والكبراء من الكافرين منهم " ما نراك إلا بشرا مثلنا " أي لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الاشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ولهذا قالوا " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي " أي في أول بادئ " وما نرى لكم علينا من فضل " يقولون ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا " بل نظنكم كاذبين " أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذ صرتم إليها هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الاشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن اتباع الحق هم الاشراف ولو كانوا فقراء والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس. والغالب على الاشراف والكبراء مخالفته كما قال تعالى " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال بل ضعفاؤهم. فقال هرقل هم أتباع الرسل وقولهم " بادي الرأي " ليس بمذمة ولا عيب لان الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر ههنا إلا غبي أو عيي والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا فبادر إليه وسارع. وقوله " وما نرى لكم علينا من فضل " هم لا يرون ذلك لانهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون بل هم في ريبهم يترددون في ظلمات الجهل يعمهون وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون وهم في الآخرة هم الأخسرون.