والبراهين لا يؤمنوا بها فلا فهم عندهم ولا إنصاف كقوله تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " الآية وقوله تعالى " حتى إذا جاءوك يجادلونك " أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " أي ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وقوله " وهم ينهون عنه وينأون عنه " في معنى ينهون عنه قولان " أحدهما " أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن " وينأون عنه " أي ويبعدونهم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وهم ينهون عنه " يردون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد وهذا القول أظهر والله أعلم وهو اختيار ابن جرير. " والقول الثاني " رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس يقول في قوله " وهم ينهون عنه " قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى. وكذا قال القاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار وغيره أنها نزلت في أبي طالب. وقال سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر رواه ابن أبي حاتم وقال محمد بن كعب القرظي " وهم ينهون " عنه أي ينهون الناس عن قتله وقوله " وينأون عنه " أي يتباعدون منه " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " أي وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلا عليهم وهم لا يشعرون.
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال فعند ذلك قالوا " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملا صالحا ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. قال الله تعالى " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة كما قال قبله بيسير " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم " ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا وإن كانوا يظهرون لاتباعهم خلافه كقوله مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " الآية وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الايمان للناس ويبطنون الكفر ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الاعراب فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال " وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " وعلى هذا فيكون إخبارا عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين يعاينون العذاب فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق والله أعلم وأما معنى الاضراب في قوله " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الايمان بل خوفا