شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين - ابن ميثم البحراني - الصفحة ٢٢٦
الثالث - قوله عليه السلام في رواية ضرار بن ضمرة الضبابي لمعاوية وقد سأله عن أمير المؤمنين (ع) قال (1) لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول:
(١) - قال ابن ميثم (ره) في شرح نهج البلاغة في شرح هذه العبارة ما نصه (ص ٥٨٨):
أقول: كان هذا الرجل من أصحابه (ع) فدخل على معاوية بعد موته (ع) فقال:
صف لي عليا فقال: أو تعفيني عن ذلك فقال: والله لتفعلن فتكلم بهذا الفصل فبكى معاوية حتى اخضلت لحيته والضباب بطن من فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والسدول جمع سدل وهو ما أسبل على الهودج، والتململ التقلقل من الألم والهم، والسليم الملسوع والوله أشد الحزن وقد نظر عليه السلام إلى الدنيا بصورة امرأة تزينت وتعرضت لوصوله إليها مع كونها مكروهة إليه فخاطبها بهذا الخطاب، واليك من أسماء الافعال اي تنحى، وعنى متعلق له بما فيه من معنى الفعل، واستفهامه عن تعرضها به وتشوقها إليه استفهام انكار لذلك منها واستحقار لها واستبعاد لموافقته إياها على ما تريد، ولا حان حينك اي لأقرب وقتك اي وقت انخداعي لك وغرورك لي. وقوله (ع): هيهات اي لابعد ما تطلبين منى ثم أمرها بغرور غيره وهو كناية عن انه لا طمع له في ذلك منه الا انه أراد منها غرور غيره وهذا كمن يقول لمن يخدعه وقد اطلع على ذلك منه: اخدع غيري، اي ان خداعك لا يدخل على. ثم خاطبها خطاب الزوجة المكرهة منافرا لها فأخبرها بعدم حاجته إليها، ثم أنشأ طلاقها ثلاثا، لتحصل البينونة بها مؤكدا لذلك بقوله: لا رجعة لي فيها، وهو كناية عن غاية كراهيتها، واكد طلاقها لميله (ع) إلى ضرتها التي هي مظنة الحسن والبهاء.
ثم أشار إلى المعايب التي لأجلها كرهها وطلقها وهي قصر العيش اي مدة الحياة فيها ويسير الخطر اي قلة قدرها ومحلها في نظره ثم حقارة ما يؤمل منها، وثم تأوه من أمور، أحدها - قلة الزاد في السفر إلى الله تعالى قد علمت أنه التقوى والأعمال الصالحة وهكذا شأن العارفين في استحقار أعمالهم. الثاني - طول الطريق إلى الله ولا شئ في الاعتبار أطول مما لا يتناهى. الثالث - بعد السفر وذلك لبعد غايته وعدم تناهيها. الرابع - عظم المورد وأول منازله الموت ثم البرزخ ثم موقف القيامة الكبرى والله المستعان. وروى: " وخشونة المضجع "، وهو القبر ".
وقال ابن أبي الحديد في شرحه ضمن ما قال: (ج 4 من طبعة مصر ص 276):
" والتململ والتملل أيضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة وهي الرماد الحار وتشوفت ويروى بالقاف (يريد انه بالفاء وفى رواية أخرى بالقاف). وقوله: لا حان حينك، دعاء عليها لا حضر وقتك كما تقول: لا كنت فاما ضرار بن ضمره فان الرياشي روى خبره ونقلته انا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة قال: دخل ضرار على معاوية وكان ضرار من صحابة علي عليه السلام فقال له معاوية: يا ضرار صف لي عليا قال أو تعفيني؟ - قال: لا أعفيك، قال ما أصف منه وكان والله شديد القوى بعيد - المدى يتفجر العلم من انحائه والحكمة من ارجائه، حسن المعاشرة سهل المباشرة، خشن المأكل قصير الملبس، غزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، وكان فينا، يجيبنا إذا سألنا ويبتدئنا إذا سكتنا، ونحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه الكلام لعظمته، يحب المساكين ويقرب أهل الدين وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وتمام الكلام مذكور في الكتاب.
وذكر عمر بن عبد العزيز في كتاب الاستيعاب هذا الخبر فقا ل:
حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عائذ قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر وحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العكلي عن الحرمازي عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابي: يا ضرار صف لي عليا قال: اعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصنفه قال: اما إذ لابد من وصفه، كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من الباس ما قصر ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غرى غيري، أبى تعرضت أم إلى تشوفت؟ هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال:
رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ - قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها ".