اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء، وقال شريح وابن أبي ليلى: يضرب السيد مع الغرماء.
وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يستغرق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته، وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب، وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فنوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإن جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الاحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الانسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب: (بداية المجتهد وكفاية المقتصد)