إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل.. ولا يغلف الأشياء بغلاف سحري، بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوح وصراحة.. بعيدا عن المجاملة واللياقة التي تفرضها علاقة الابن بأبيه.. لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي للعلاقات لأن علاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أية علاقة بأي إنسان كان.
وفي الصورة الثانية نشاهد إبراهيم يتطلع إلى السماء، كما لو كان شاهدها أول مرة، فهو - فيما توحيه الآية - يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها من قبل، وذلك فيما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة الحس البصري كمادة للتفكير، للانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى المعنى.. فقد كان يشاهدها سابقا، في رؤية جامدة، لا تعني له شيئا، إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين - لمجرد تجميع الصور في الوجدان.. فيما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته اليومية.. وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض..} هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في الداخل المزيد من التأمل والحوار والاستنتاج.. بدليل قوله تعالى {وليكون من الموقنين..}، مما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث على القناعة من خلال اليقين.. وبدأ يفكر في استعراض عقلي للعقائد التي يعتقدها قومه في عبادتهم للكواكب والقمر والشمس.. ومحاكاة ذاتية تتحرك من أجل إثارة التساؤل.. وهكذا التقى بالكواكب المتناثرة في السماء، في صورة بديعة في روعة التنسيق والتكوين.. فما أن لمح كوكبا يتلألأ ويشع في قلب هذا الظلام المترامي.. حتى سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادئ في الأفق البعيد.. فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه.. لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد، الذي تتطلع إليه الأبصار برهبة وخشوع ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه.. {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي..} في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحد غيره.. وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور.. وفي اندفاعة الإيمان..