القمر والكواكب.. فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميز عنهما بصفات كثيرة.. وبدأ يتابعها وهي تتوهج وتشتعل.. وتملأ الكون كله دفئا وحياة وإشراقا وجمالا.. فإذا به يهتز ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة.. ولكن.. ماذا..؟ وبدأ يفكر.. فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل.. ثم تغيب وتأفل.. وتترك الكون في ظلام دامس.. فكيف يمكن أن تكون إلها تعيش في الحياة في قدرته وقوته.. ما دامت تغيب مع المجهول تاركة الكون كله في ظلام وفراغ؟..
وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس.. فيما خيل له، في وقت من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب.. {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون..} من هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركة من حركاتها، أو خطوة من خطواتها.. وتمرد على كل هذه الاتجاهات الإشراكية لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة.. بل لا بد أن يكون شيئا أعظم من ذلك وأكبر.. في القوة والقدرة.. لا في الحجم.. {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض.. حنيفا وما أنا من المشركين..}.
وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحس بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن الله لا يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يدرك بالعقل وبالقلب وبالشعور.. من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير.. من السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن.. فتترك لديه انطباعا بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها.. ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والانفتاح.. وقف بكل كيانه - ليحول كل وجهه - والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتها - إلى الله، حنيفا، مخلصا مائلا عن خط الانحراف.. فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة.. بإحساس العبودية.. وحركة الإيمان.. الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة، التي تتأله أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة.. وما أنا من المشركين..