أنه يذكر عن نفسه أنه تحفة للصديق قائلا:
على أنني تحفة للصديق * يروح بنجواي أو يغتدي وإني ليأنس بي الزائرون * أنس النواظر بالأثمد تغمض لي أعين الحاسدين * كالشمس في ناظر الأرمد فلا دخل البعد ما بيننا * ولا فك منا يدا عن يد وطول أيامنا بالمقام * في ظل عيش رقيق ندي لكن قدره أنه وهو الصديق والصادق ليس له صديق، فيقول:
كفى حزنا أني صديق وصادق * وما لي من بين الأنام صديق فكيف أريغ الأبعدين لخلة * وهذا قريب غادر وشقيق وظلت حسرته على الصديق تنتهي دوما بمقالة حكيمة:
من لي بغرة صاحب * لا يستطيل عليه عاب ما حار الأيام إلا * كان لي وله الغلاب هيهات أطلب ما يطول * به بعاد واقتراب قل الصحاب فان ظفرت * بنعمة كثر الصحاب من لي به سمحا إذا * صفرت من القوم الوطاب من لي به يا دهر والأيام * كالحة غضاب غربة المتفرد لا يمكن قصر الاغتراب على شروط الموضوعية، من حيث كونه تغريبا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إذ أن العوامل الذاتية للاغتراب تشكل أساسا قويا لفعالية الثروة والمؤثرات الموضوعية. وبالنسبة إلى الشريف الرضي لعبت طبيعته الشخصية دورا كبيرا في اغترابه المأساوي. واستنادا إلى أشعار الشاعر، وإلى المعروف عن حياته، فان طبيعته تتسم بمزيتين واضحتين تماما:
الأولى قوة طبعه، وحديته التي لا يستطيع حيالها الأقدام على أية مراوغة شخصية. ولعل وضوحه القاسي كان سببا كبيرا لكثير من المتاعب التي مر بها، وكثيرا تحدث عن السيف، بل هو يرى أن السيف لا معنى له، وليس سيفا إذا ظل مغمدا، فهو سيف في وظيفة الاستعمال، وليس في إطار الغمد والحفظ فقال:
أنا السيف إلا أنني في معاشر * أرى كل سيف عندهم لا يجرب ومثلما بدأ جليا في العديد من الاستشهادات الشعرية المذكورة، وسواها مما لم نذكره وهو أكثر! كان الشاعر متجها صوب أهدافه التي أجملتها كلمة المعالي تعبيرا عن قضية سياسية وإيديولوجية، وطموح متحصن بدلالة دينية وتاريخية.
وأكسبته طبيعته الشخصية العنيدة، واقعية مباشرة، وتعاملا حسيا مع الأحداث بالمستوى الذي حتمه كفاحه من أجل تحقيق بعض أهدافه.
وإن العلى الذي كان يتوق إلى الوصول إليه باستمرار، لم يكن مقطوعا عن تلك الطبيعة نفسها، لأنها بالذات، طبيعة تحمل في داخلها شعورا بالعلو لم يفارقه لحظة. وإنسان، هو الشريف الرضي، ذو نفس عالية، لا يمكن إلا أن يكون صادقا في حياته، حقيقيا، واضحا، مباشرا، مفصحا عن أهدافه، وأغراضه، وعواطفه، بشاعرية صافية.
ومن موقع العلو النفسي، يأنف الشاعر وأي إنسان مشابه له، من التدني، والتلوث، والارتباط بالشبهات ومن باب أولى، فإنه يترفع عن الكذب، والالتواء، والاحتيال، والتخابث، وسنرى فيما بعد كيف أن هذه الصفة من صفات الشريف الرضي متعلقة بخوض غمار حرب صعبة مع الناس والأقرباء والأصدقاء بسبب صدقه في عشقه، وتعففه عن النفاق، باسم دواعي نقابته وإمارته بالحج.
وإذا كانت صفة القوة الطاغية في طبيعة الشريف الرضي قد برزت في مضامين كثيرة من شعره، والشعر ترجمان الأفكار والأحوال، فان الصفة الثانية برزت في حياته الواقعية، وفي شعره أيضا، هي صفة السماحة، التي يمكن حسبانها نوعا من الديموقراطية الفطرية، والمناقبية الإنسانية السمحاء. وهي أيضا الوجه الآخر لعظمة الروح. فالقوة الحقيقية للشخصية هي التي توفر أوسع الإمكانات، والاستعدادات لخوض الحوار الديمقراطي، والتعايش مع المذاهب والأفكار بثقة.
إن الضعفاء، حينذاك، وفي أي وقت آخر، في ميدان السياسة والفكر هم الذين يخشون الحوار والتعايش مع الآخرين من مختلف المستويات المذهبية والأيديولوجية، ذلك لأن التزعزع الذي يلم بنفس الضعيف فكريا وأخلاقيا يعجزه عن المعايشة، والمجابهة المشروعة، ومقارعة الحجة بالحجة.
وعلى امتداد حقب التاريخ كان المتعصبون، المتطرفون أضعف الناس، لذلك فقد استخدموا النار والحديد للإجهاز على اجتهادات الفكر والسياسة ولم تكن ظاهرة قوة بعض رؤوس التعصب، التي لا يمكن إنكار وجودها في مراحل تاريخية معينة وفي بلدان مختلفة، دالة على قوة حقيقية، بالمعنى الإنساني، بل هي نوع من شذوذ القوة، أو القوة الشاذة.
وحينما تحاول ماكينة السياسة طي السجلات والأوراق، وكم الأفواه، والتكتم على الأخبار والاختباء في ليل السرية، فان قوة التاريخ تفتح كل ما طوته السياسة، وتسلط الضوء على مخفياتها وطلاسمها.
ولأن السياسة بنت التاريخ، فإنها تسلم الأحكام النهائية إلى التاريخ الذي يقرر مدى الضعف والقوة، والكذب والصدق في حيوات البشر الفعالين، من سياسيين ومفكرين، وشعراء ومقاتلين... الخ.
وقد انتصر التاريخ للقيم السمحاء، وأدار ظهره للتعصب، وبذلك أصبح تاريخا.
ويبدو أن الشريف الرضي ورث سماحة الأخلاق وديمقراطية الرأي ورفضه للتحجر والتعصب والانعزالية وتصنيف البشر باسم المعتقدات وسواها، من أبيه السيد أبي أحمد الموسوي، الذي كان الرجل الهمام، والرأس المقدام، في حل مشكلات الصراع الذي كان يؤججه الطامعون وعملاؤهم المنتفعون.
وقد تشرب الشريف الرضي من أخلاق أبيه كل السماحة النجيبة التي جعلته ينظر إلى البشر بمنظار المحبة، لا بمنظار التعصب الضيق، الذي يصطنع الفوارق بين البشر، بعنصرية مقيتة، ذات منحى مذهبي، ادعائي، شكلي بالنتيجة.
وكان أن توجه بالنقد المرير إلى قومه المتنابذين، المتنازعين، وكان نقده مدخلا بدعوة إلى التمرد والثورة، فقال في قصيدة له: