وكان الشريف الرضي الإنسان، والرائد المصلح، شديد العبرة، قوي التعاطف مع المثكولين. وهو في ذلك يشبه آباءه الأولين الذين كانوا يبكون الليل من خشية الله حتى ذبلت عيونهم.
ويقول د. زكي مبارك: ومن عجائب ما وقفت عليه أن الناس كانوا يسألون الشريف أن يبكي موتاهم فيجيب: والشجى يبعث الشجى، والدنيا عند الحزين كلها قبر مالك أليس من العجيب أن يسأل الشريف بكاء ميت لا يعنيه فيقول:
ألا مخبر فيما يقول جلية * يزيل بها الشك المريب يقين أسائله عن غائب كيف حاله * ومن نزل الغبراء كيف يكون وما كنت أخشى من زماني أنني * أرق على ضرائه وألين إلى أن رماني بالتي لا شوى لها * فأعقب من بعد الرنين أنين وإن أحق المجهشين بعبرة * ووجد قرين بان عنه قرين وما تنفع المرء الشمال وحيدة * إذا فارقتها بالمنون يمين تجرم عام لم أنل منك نظرة * وحان ولم يقدر لقاؤك حين أمر بقبر قد طواك جديده * فأبلس حتى ما أكاد أبين وتنفض بالوجد الأليم أضالع * وترفض بالدمع الغزير شؤون ومعاذ الأدب أن يكون الشريف في هذه القصيدة كالنائحة المستأجرة، وهل كانت النائحة المستأجرة تعني حقا من دعيت للبكاء عليه؟ إنها تبكي ودائعها في التراب فهي نائحة ثكلى مفطورة الفؤاد.
ويضيف: فالشريف يجسم معاني الأخوة وهو يبكي أصدقاءه المجهولين وهو أيضا يشرح للناس مذاهب الوفاء.
ومن شواهد شعره في بكاء المغمورين ما قاله:
ما لي أودع كل يوم ظاعنا * لو كنت آمل للوداع لقاءا وأروح أذكر ما أكون لعهده * فكأنني استودعته الأحشاءا فرغت يدي منه وقد رجعت به * أيدي النوائب والخطوب ملاءا أحبابي الأدنين كم ألقى بكم * داء يمض فلا أداوي الداءا أحيا إخاءكم الممات وغيركم * جربتهم فثكلتهم أحياءا إلا يكن جسدي أصيب فإنني * فرقته فدفنته أعضاءا وقال في قصيدة ثانية:
أقول وقد قالوا مضى لسبيله * مضى غير رعديد الجنان ولا نكس كان حداد الليل زاد سواده * عليك ورد الضوء من مطلع الشمس أرى كل رزء دون رزئك قدره * فليس يلاقيني ليومك ما ينسي وقال من قصيدة ثالثة وهي في رجل كانت له شخصية، ولا نعرف السبب في طي اسمه عن الناس:
ما بعد يومك ما يسلو به السالي * ومثل يومك لم يخطر على بالي وكيف يسلو فؤاد هاض جانبه * قوارع من جوى هم وبلبال يا قلب صبرا فان الصبر منزلة * بعد الغلو إليها يرجع الغالي نقص الجديدين من عمري يزيد على * ما ينقصان على الأيام من حالي مضى الذي كنت في الأيام آمله * من الرجال فيا بعدا لآمالي قد كان شغلي من الدنيا فمذ فرغت * منه يدي زاد طول الوجد أشغالي تركته لذيول الريح مدرجة * ورحت أسحب عنه فضل أذيالي ما بالي اليوم لم ألحق به كمدا * أو أنزع الصبر والسلوان من بالي ويربط د. زكي مبارك الطبيعة البكائية للشريف الرضي بظاهرة هي من غرائب الوفاء عند الشريف وهي بكاء النساء قائلا: وهناك جانب من غرائب الوفاء عند الشريف هو بكاء النساء، وهذا أغرب الجوانب، وهو يحتاج إلى تأمل ودرس، ولا نعرف بالضبط كيف نشأ الاحساس عند الشريف، فقد كان المألوف في التقاليد العربية أن لا يبكى من النساء غير المعشوقات، وبكاء الأمهات والحلائل باب من النبل، ولكنه في شعر العرب قليل، فقد لا يساوي واحدا من خمسين إذا أحصينا ما قيل في الرثاء، فكيف اتفق للشريف الرضي أن يكثر من تعزية الناس في أمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم؟.
إن هذه الظاهرة ليس لها عندي غير تعليل واحد، هو أن الشريف الرضي كان ابن أمه كما يعبر المصريون حين يداعبون من يغضبون لأمهاتهم من الأطفال.
ونحن نعرف أن أيام البؤس في حياة الشريف مضت وهو في رعاية أمه الرءوم التي باعت أملاكها وحليها لتقيه وتقي أخاه ذل العوز والاحتياج.
والأم الرءوم لم تجد من يؤرخ فضلها في اللغة العربية. ويندر بين كتاب العرب من يقول حدثتني أمي وأنبأتني أختي وأخبرتني حليلتي، وإن كان في شعرائهم من يقبل النعال في أقدام الملاح.
وما أريد أن أطيل القول فيما أثر عن العرب والهنود من بغض البنات، فذلك معروف، وانما أريد أن أقف عند هذه النزعة النبيلة من نزعات الشريف، وأنا أجزم بأنه كان يرى المرأة في صورة أمه تلك الأم التي وقته مكاره الحياة في السنين العجاف يوم أودع أبوه غياهب الاعتقال.
وما يهم من ذكر استطراد د. زكي مبارك، هنا، هو أن بكائية الشريف الرضي كانت تسع الأصدقاء المعروفين والمجهولين، والأحبة المفقودين، والناس المحزونين، لأنه في ذلك كان يجسد طبيعته البكاءة، وما لم يعطه د.
زكي حقه في تعليل الظاهرة البكائية للرضي مغزى العلاقة بين الزهد والبكاء، وفيض تلك العلاقة على جوانب الحزن والتأسي والتفجع لكل محزون أو مفجوع.
ويمتد جذر العلاقة بين الزهد والبكاء في حياة الشريف الرضي إلى آبائه الزهاد المعروفين بكثرة البكاء، وبخاصة زين العابدين بن الحسين، الباقر بن زين العابدين وسواهما.
وقد أورد لنا أبو نعيم نصا بين فيه جوهر زهد علي بن الحسين زين العابدين، وذلك أنه سئل عن كثرة بكائه فقال: لا تلوموني فان يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنه مات. وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يقتلون في غزاة واحدة. أفترون حزنهم يذهب من قلبي.
أما محمد الباقر بن زين العابدين ع فكان يقول: ما اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار.