تعود لمشتاق تزايد وجده * وما قد مضى في الدهر ليس بمرجع إلى أن قال:
وخطب بكت منه السماء وصدعت * له الأرض والأطواد أي تصدع فديت حسينا حين ودع راحلا * لأكرم جد وهو خير مودع فأمسى يجد السير لم يك وانيا * غداة دعوه طالبا ما له دعي على أنه ذاك الامام ولم يكن * بما رامه في ذلك الأمر مدعي عبد الرحمن بن عبيد الهمداني.
لما قام المختار يطلب بثار الحسين ع في الكوفة دعا بغلام له أسود يقال له رزين، وكان فارسا بطلا، فقال: ويلك يا رزين! قد بلغني عن الشمر بن ذي الجوشن أنه قد خرج عن الكوفة هاربا في نفر من غلمانه ومن اتبعه، فاخرج في طلبه فلعلك تأتيني به أو برأسه، فاني ما أعرف من قاتل الحسين بن علي أعتى منه ولا أشد بغضا لأهل بيت رسول الله ص.
فاستوى رزين على فرسه وخرج في طلب الشمر بن ذي الجوشن فجعل يسير مسيرا عنيفا، وهو في ذلك يسأل عنه فيقال له: نعم إنه قد مر بنا آنفا، فلم يزل كذلك حتى نظر إليه من بعيد، قال: وحانت من الشمر التفاتة فنظر إلى رزين غلام المختار فقال لغلمانه: سيروا أنتم فان الكذاب قد بعث بهذا الفارس في طلبي! قال: ثم عطف الشمر على غلام المختار وتطاعنوا برمحيهم، طعنه الشمر طعنة قتله ثم مضى.
وبلغ ذلك المختار فاغتم لذلك غما شديدا، ثم دعا برجل يقال له عبد الرحمن بن عبيد الهمداني، فضم إليه عشرة من أبطال أصحابه ثم قال: يا عبد الرحمن! إن الشمر قد قتل غلامي رزينا ومر على وجهه، ولست أدري أي طريق سلك، ولكني أنشدك بالله يا أخا همدان ألا قررت عيني أنت ومن معك بقتله إن قدرتم على ذلك.
فخرج عبد الرحمن بن عبيد في عشرة من أصحاب المختار في طلب الشمر بن ذي الجوشن، فجعلوا يسيرون وهم يسألون عنه ويمضون على الصفة، قال: والشمر قد نزل إلى جانب قرية على شاطئ الفرات يقال لها الكلتانية وهو جالس في غلمانه، ومعه قوم قد صحبوه من أهل الكوفة من قتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهم آمنون مطمئنون، والشمر قد نزع درعه، ورمى به ورمى ثيابه واتزر بمئزر وجلس، ودوابه بين يديه ترعى، فقال له بعض أصحابه ممن كان معه: إنك لو رحلت بنا عن هذا المكان لكان الصواب، فإنك قد قتلت غلام المختار، ولا نأمن أن يكون قد وجه في طلبنا! قال: فغضب الشمر من ذلك وقال: ويلكم أكل هذا خوفا وجزعا من الكذاب، والله لا برحت من مكاني هذا إلى ثلاثة أيام ولو جاءني الكذاب في جميع أصحابه! قال: فوالله ما فرع من كلامه حينا حتى أشرفت عليه خيل المختار، فلما نظر إليهم وثب قائما فتأملهم، قال: ونظروا إليه وكان أبرص، والبرص على بطنه وسائر بدنه كأنه ثوب ملمع. قال: ثم ضرب بيده إلى رمحه ثم دنا من أصحاب المختار وهو يومئذ متزر بمنديل وهو يرتجز ويقول:
تيمموا ليثا هزبرا باسلا * جهما محياه يدق الكاهلا لم يك يوما من عدونا كلا * إلا كذا مقاتلا أو قاتلا يمنحكم طعنا وموتا عاجلا قال: فقصده عبد الرحمن بن عبيد وهو يرتجز ويقول:
يا أيها الكلب العوي العامري * أبشر بخزي وبموت حاضر من عصبة لدى الوغى مساعر * شم الأنوف سادة مغاور يا قاتل الشيخ الكريم الطاهر * أعني حسين الخير ذي المفاخر وابن النبي الصادق المهاجر * وابن الذي كان لدى التشاجر أشجع من ليث عرين خادر * ذاك علي ذو النوال الغامر ثم حنق عليه الهمداني فطعنه في نحره طعنة فسقط عدو الله قتيلا، ونزل إليه الهمداني فاحتز رأسه، وقتل أصحابه عن آخرهم، وأخذت أموالهم وأسلحتهم ودوابهم، وأقبل الهمداني برأسه ورؤوس أصحابه إلى المختار حتى وضعها بين يديه، فلما نظر المختار إلى ذلك خر ساجدا لله، ثم أمر برأس الشمر وأصحابه فنصبت بالكوفة في وجه الحدادين حذاء المسجد الجامع، ثم أمر لهذا الهمداني بعشرة آلاف درهم وولاه أرض حلوان.
عبد الرحمن بن عبيد.
كان الضحاك بن قيس واليا على الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان. وكان قبل ذلك أيام أمير المؤمنين ع قد أغار على الحيرة، فأرسل إليه أمير المؤمنين جيشا بقيادة حجر بن عدي الكندي فما زال مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بتدمر فواقفه فاقتتلوا ساعة، وحجز بينهم الليل فمضى الضحاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له ولا لأصحابه أثرا.
عن محمد بن مخنف (1) قال: إني لأسمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان على منبر الكوفة يخطبنا وهو يقول: أنا ابن قيس، وأنا أبو أنيس، وأنا قاتل عمرو بن عميس، قال: وكان الذي ظاهره على ذلك أنه أخبر أن رجالا من الكوفة يظهرون شتم عثمان والبراءة منه قال: فسمعته وهو يقول:
بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له ند ولا شريك لئن لم تنتهوا عما بلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة، ولا كليل الشفرة (2)، أما والله إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الاسلام فسرت ما بين الثعلبية وشاطئ الفرات، أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت، لقد ذعرت المخبئات في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها. فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي، فاتقوا الله يا أهل العراق واعلموا أني أنا الضحاك بن قيس.
فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال: صدق الأمير وأحسن القول ما أعرفنا والله بما ذكرت...! ولقد أتيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا صبورا مجربا، ثم جلس فقال: أيفتخر علينا بما صنع في بلادنا أول ما قدم؟! وأيم الله لأذكرنه أبغض مواطنه تلك إليه، قال: فسكت الضحاك قليلا فكأنه خزي واستحيا ثم قال: نعم كان ذلك اليوم باخرة (3) بكلام ثقيل ثم نزل.