إن انطواء شخصية الشريف الرضي على قوة الطبع، وعلى السماحة، أضفى عليها تفردا متميزا، ومن خلال ذلك كان التفرد العقلي والأدبي والسياسي ينمو نموا طبيعيا من تربة النفس الغنية بالانفعال الصادق. ففي ميزة قوة الطبع ترعرعت قوة الإرادة، والمطلبية السياسية، والقدرة الكفاحية وفن قيادة الناس سواء في نقابة الطالبيين، أو في مواسم الحج، أو في النظر في المظالم.
وفي ميزة السماحة، نمت النزعة الديمقراطية، وروح التعايش المذهبي وأخذت ذهنية الشاعر المتفتحة مداها الوافر في المعرفة، والحوار، والابداع، والإنتاج الأدبي والعلمي، إضافة إلى الشعر.
ومن وحدة المصدرين اللذين شكلا أساس النفس وتربتها، تكونت للقريحة الشعرية بصمات قوية لا تخص أحدا غير الشريف الرضي. كما أن العشق الذي كان رحلة طويلة في حياة الشاعر الرضي، استقى من ذينك المصدرين العلامات المميزة في تجربته الخاصة فجانب السماحة، وهو الجانب العاطفي، والإنساني كان يستقبل الهوى بسرعة، فيما كان جانب قوة الطبع يجعله متشبثا بالعلاقة العاطفية بقوة، وهكذا كان، الأمر وسيظل دوما يبتدئ الحب بنظرة خاطفة، أو بلمسة يد غير مقصودة، أو بتبادل بضع كلمات في فرصة غير متوقعة ثم ينيخ بركابه على النفس إناخة المستقر الذي لا يريم.
وامتدت شجرة المعرفة في نفس الشريف الرضي بجذرين متوحدين كضفيرة واحدة قوة الطبع، والسماحة فكانت ثمار الشجرة منوعة في الشعر والأدب والعلم والسياسة، لأن نبوع الشاعر وجد في السمات المتفردة للشخصية امدادات قوية: عقلية وعاطفية.
أي أن اتحاد العقل والقلب في السفر الطويل للشريف الرضي كان قد أوجد الاغتراب الكبير في وسط بشري اتخذ ازدواجية العقل والقلب مصطلحا له، وإذا ما حصل أن توفر أنموذج بشري يعطي للقلب حقه، مثلما يعطي للعقل صلاحيته، فان ذاك الأنموذج في أحسن الأحوال يعطي للقلب بعض حقه، وللعقل بعض صلاحيته لكنما الشريف الرضي فتح بوابات الجسد أمام الشهقة التامة للقلب، وأمام طلقات العقل التي لم تنقطع.
لقد رفع الحجاب بين العقل والقلب، في داخل نفسه، فكانت لهما رياضة مشتركة، ورفع الحاجب خارج نفسه، أمام الناس، فكان للقلب والعقل مهرجان كبير لم يشترك فيه أحد سواه هو! أليس هو واحدا متكثرا بما حباه الله به من موهبة ونبوع ومؤهلات؟ ورغم تناقض السمات عند سواه، فإنها تضايقت فيه، فكانت فيه خيالية الشاعر، وواقعية السياسي، وموسوعية العقلاني وجدية العالم ورقة العاشق، وعناد المغامر.
وكان فيه طبع الرئاسة، ونزعة الجواب، وهكذا ولد في الشريف الرضي النموذج العالم إلى جانب أنموذج الشاعر، وكانت مؤلفاته العلمية في الأدب والنحو والفقه لا تقل شهرة عن شاعريته الرفيعة.
إن العلم وهو يتعامل مع الوقائع ومع التواريخ، ومع خلاصة الخبرات البشرية، يتطلب نقيض ما يتطلبه الشعر فحيث يعني الشعر الهجرة وراء الخيال والرؤيا، فان العلم يعني المكوث ندا لمختبر، وفي دارة البحث والمواصلة، والتسجيل، والجرد، وتثبيت الحقائق.
إن الحقيقة العلمية، وهي غير الحقيقة الشعرية تحتاج إلى مجهود بشري مكرس لها، في انقطاع العالم ومكوثه في ميدان العمل العلمي، فكيف استطاع الشاعر الحر الشريف الرضي أن يفي بمستلزمات الحقيقة العلمية، وهو بطبيعته الشاعرية، الغرامية، المتجولة؟
إن جواب ذلك وارد في فرادة طبعه وطبيعته، فكان العالم الوجه الثاني لشخصية الشريف الرضي الشاعر المجيد، فاستطاع أن يكون مبرزا في ميادين العلوم اللغوية والشرعية، وفي الدراسات الأدبية، فصدرت له مؤلفات ثمينة من بينها: المجازات النبوية وحقائق التأويل وأخبار قضاة بغداد وانتخاب الحسن من شعر الحسن وانتخاب شعر ابن الحجاج وتعليق خلاف الفقهاء وطيف الخيال والمتشابه في القرآن ومجاز القرآن وخصائص الأمة وانشراح الصدر في مختارات من الشعر وانشراح الصدور وسيرة الوالد الطاهر ومختصر أمثال الشريف الرضي وقدم المختارات من عبقرية علي بن أبي طالب ممثلة في الكتاب النادر: نهج البلاغة إضافة إلى العديد من المؤلفات والرسائل التي تفصح، أيما إفصاح، عن توقد الذهن، وغنى التجربة، واتساع الأفق عند الشريف الرضي.
وكان الجانب العلمي الدراسي من حياة الشريف الرضي مناسبا لمكانته الدينية، ومسؤوليته في امارة الحج، بعكسه الشعر الذي كان يثير حفيظة الخصوم، ويؤلم المريدين الذين راهنوا على السياسة فقط.
لكن الشخصية الفذة، شخصية الشريف الرضي، سارت مشتملة بكل جوانب الابداع في الشعر وفي علوم الأدب والفقه والشرع، مثلما سارت مشتملة برداء الرئاسة الذي اكتساه بفضل تاريخه العربي الأشم وإمكاناته النادرة، وعلو محتدة.
غير أن ما من ضرورة تجعل تفرد شخصية الشريف الرضي نوعا من التغرب المثير لولا الجانب المهم في حياته، فقد شاءت الدنيا، دنياه، ودنيا منطقته العربية ودائرته الاجتماعية، أن يكون أميرا في العشق، مثلما هو أمير في موسم الحج، وفي السياسة.
وكثيرة هي الفعاليات النظرية التي قد لا ترتبط بفعاليات عملية، لأنها مجرد أفكار وتصورات، وأخيلة، وقد يتخيل الإنسان ما شاء له الخيال، في الشعر، وفي السياسة لكن العشق هو واقع كالخيال، صلة بين عاشق ومعشوق ضمن مناخ اجتماعي، وطبيعي. فهي حسية رغم كل جوانبها اللاحسية، وهي مفضوحة، رغم كل السرية، وهي أبدية رغم الأنية.
ولم يوجد قط عاشق بدون معشوق. فكيف إذا كان العاشق واسع التجربة ما أسرع ما كان قلبه يتعرض للطرق؟!
هناك في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، في أجواء التعصب والفتن والصراعات الدامية، هناك في زمن المكايد والدسائس والشغب العنيف، كان شخص يتحلى بكل إمارات النبل والشرف والورع، وبكل مخايل النبوع في الشعر والأدب والعلم، شخص مشبع بالطموح، وهو سيد