حتى صاروا إلى الأنبار. فنزل عبيد الله بن الحر ومن معه من الأنبار يوما ثانيا، ثم إنهم تذاكروا شيئا من أمر صفين وما كان من محاربة أهل العراق لهم، فوثب بعضهم على بعض فاقتتلوا هنالك حتى تفانى الفريقان جميعا من أهل الشام وأصحاب عبيد الله بن الحر على غير شئ. قال: وانفلت نفر من أهل الشام، ففروا هاربين على وجوههم، وبقي عبيد الله بن الحر في نفر يسير من أصحابه.
وكان مصعب بن الزبير يومئذ بالبصرة وخليفته الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بالكوفة. فلما بلغه ما فيه عبيد الله بن الحر من قلة أصحابه اغتنم ذلك، فدعا برجل من بني سليم يقال له عبيد بن العباس، فضم إليه خمسمائة فارس وأمره بالمسير إلى عبيد الله بن الحر.
فسارت الخيل نحو عبيد الله بن الحر، فلما نظر الخيل وقد وافته التفت إلى من بقي من أصحابه فقال: يا بني الأحرار! اركبوا خيولكم وموتوا كراما! وإلا أخذتم أسارى فعرضتم على السيف كما عرض أصحاب المختار من قبلكم فركب أصحابه وهم يومئذ أقل من خمسين رجلا، وركب عبيد الله وجعل يقول:
يا لك يوما قل فيه ثقتي * وغاب عني معشري وأسرتي ومذحج طرا وجل إخوتي * وصحبتي الحامون لي في كربتي يا قيس غيلان أصبتم فرصتي * وما أبالي إن أتت منيتي ثم حمل عليهم في أصحابه على قلتهم، فقاتل ساعة فقتل من أصحابه نيف على ثلاثين رجلا وبقي في بضعة عشر رجلا، فقاتل حتى بقي خمسة، فجعل يرتجز ويقول:
لو أن لي من شيعتي رجالا * مساعرا أعرفهم أبطالا لأحسنوا من دوني القتالا * ولم يهابوا في الوغى الآجالا وقتل أصحابه الخمسة فبقي عبيد الله بن الحر يقاتل وحده وأحاطت به الخيل من كل جانب، فطعنه رجل من بني محارب يكنى أبا كدية، فصرعه عن فرسه على شاطئ الفرات وغار فرسه، فوثب قائما وبقي يقاتلهم راجلا في جوف الماء، والقوم يرمونه بالسهام، ولا يدنو أحد منه غير أنهم يقولون:
كيف ترى هذه السهام يا بن الحر! فقال لهم: إن كنتم رجالا كما تزعمون فابرزوا إلي واحدا بعد واحد حتى تعلموا أينا بن الحر! وأثخن بالجراحات فلم يستطع أن يقاتل القوم، فعمد إلى زورق من تلك الزوارق، فجلس فيه وقال لصاحبه: عبرني إلى ذلك الجانب من الفرات وسلبي لك! قال: فجعل صاحب الزورق يقذف به حتى صار إلى نصف الفرات وأصحاب مصعب ينادون صاحب الزورق: ويحك أيها الملاح! إن الذي معك هو طلب أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير وطلب مصعب بن الزبير، فاحذر على نفسك ورد الزورق إلينا ولك عشرة آلاف درهم! فهم الملاح أن يرده إليهم. فلما حول رأس الزورق قام إليه عبيد الله بن الحر ليمنعه من ذلك، فقبض عليه الملاح وكان قويا في بدنه فاعتنقا جميعا واضطربا في الزورق ثم سقطا جميعا في الفرات فغرقا.
ثم دعا أصحاب مصعب بن الزبير بالغواصين، فغاصوا في الفرات حتى أخرجوا عبيد الله بن الحر من الماء، فاحتزوا رأسه وصلبوه على شاطئ الفرات، ثم بعثوا برأسه إلى أمير الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، فوجه الحارث بالرأس إلى مصعب بن الزبير بالبصرة، ووجه مصعب بالرأس إلى أخيه عبد الله بن الزبير.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فجزع عليه جزعا شديدا، ثم قال: لله درك يا بن الحر! قد كنت فارس حرب، وكاشف كرب وفارس همة، وسداد ثغر، فلأسعدنك الله حيا وميتا، فلعمري لقد بلوك فما وجدوك خوارا ولا فرارا، لكنهم ألفوك كرارا نفاعا ضرارا، وبالله يحلف عبد الملك ليأخذن بثارك وثار غيرك إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. قال: فأنشأ أنس بن معاوية البكري يقول أبياتا مطلعها:
يا عين ابكي عبيد الله ما طلعت * شمس النهار وأذرى الدمع تسكابا إلى آخرها. انتهى ما ذكره ابن أعثم.
وقد نقلنا قصة عبيد الله على طولها لما فيها من العبر والرجل على كل حال مشوش الفكرة، مضطرب العقيدة، ولا يمكن اعتباره حتما من موضوع هذا الكتاب، ولكن له صلة بموضوعه تبرر ذكره فيه. ولا بد لاستكمال قصته من مراجعة ما مر عنها في الجزء الأول من المستدركات، وقبل ذلك في الأعيان نفسه.
عبيدة بن سفيان.
كان ممن خرج مع التوابين للطلب بثار الحسين ع، فلما عاد رفاعة بن شداد بمن بقي حيا في معركة عين الوردة، كان عبد الله هذا ممن عاد معه، وساروا ليلتهم تلك حتى الصباح، فلما أصبحوا إذا عبد الله في نحو عشرين رجلا قد أرادوا الرجوع إلى العدو مستقتلين، فجاء رفاعة وأصحابه وناشدوهم الله أن يفعلوا، فلم يزالوا يناشدونهم حتى ردوهم إلا رجلا من مزينة يسمى عبيدة بن سفيان، فإنه انسل من بين الناس ورجع بدون أن يعلم به أحد، حتى لقي أهل الشام فشد عليهم بسيفه يضاربهم حتى عقر فرسه فجعل يقاتل راجلا وهو يقول:
إني من الله إلى الله أفر * رضوانك اللهم أبدي وأسر فقيل له: من أنت؟. فقال: من بني آدم لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام، وشد الناس عليه من كل جانب فقتلوه.
السيد عدنان الغريفي.
ولد سنة 1283 في مدينة المحمرة وتوفي في الكاظمية بالعراق سنة 1340 ودفن في النجف. نشأ وترعرع في المحمرة، توفي عنه والده وهو صغير ثم أرسل إلى النجف الأشرف للدراسة فيها على نفقة أحد التجار، فحضر في دراسة السطوح على ابن عمه السيد علي بن السيد محمد الغريفي المتوفى سنة 1302 ه، وفي درس الخارج على الميرزا حبيب الله الرشتي، والشيخ محمد طه نجف، وهبط سامراء فحضر على السيد الشيرازي حتى نال درجة الاجتهاد فقد أجيز بالاجتهاد من الثلاثة المذكورين.