إلخ، كان يحدث سابقا، فيقول ابن سينا:
فإنك إذا تأملت أكثر الجبال، رأيت الانحفار الفاصل فيما بينهما متولدا من السيول. ولكن ذلك أمر إنما تم وكان في مدد كثيرة، فلم يبق لكل سيل أثره، بل إنما يرى الأقرب منها عهدا. وأكثر الجبال الآن إنما هي في الارضاض والتفتت، وذلك لأن عهد نشوئها وتكونها إنما كان مع انكشاف المياه عنها يسيرا يسيرا، والآن فإنها في سلطان التفتت، إلا ما شاء الله من جبال وإن كانت تتزايد بسبب مياه تتحجر فيها، أو سيول تؤدي إليها طينا كثيرا فيتحجر فيها.
ويتبع ابن سينا ذلك بدلائل من مشاهداته الشخصية ومشاهدات غيره فيقول: فقد بلغني أنه قد شوهد في بعض الجبال، وأما ما شاهدته أنا فهو في شط جيحون، وليس ذلك الموضع مما يستحق أن يسمى جبلا. فما كان من هذه المنكشفات أصلب طينة وأقوى تحجرا وأعظم حجما، فإنه إذا انهار ما دونه، بقي أرفع وأعلى.
ينتقل ابن سينا بعد ذلك إلى تعليل تكوين الرسوبيات في الوديان التي بين الجبال، ويصفها بأنها ليست من المادة الأصلية للجبال وإنما هي منقولة بعد تفتت الجبال، وهذا ما هو معروف الآن برسوبيات بين الجبال، فيقول:
وأما عروق الطين الموجودة في الجبال فيجوز أن تكون تلك العروق ليست من صميم مادة التحجر، لكنها من جملة ما تفتت من الجبال وترسب وامتلأ في الأودية والفجاج، وسالت عليه المياه، ورطبته وغشيته أرهاص الجبال، أو خلطت به طينتها الجيدة. ويجوز أن يكون القديم أيضا من طين البحر غير متفق الجوهر أي المادة، فيكون من تربته ما يتحجر تحجرا قويا، ومنه ما لا يتحجر ومنه ما يسترخي تحجره لكيفية ما غالبه فيه، أو لسبب من الأسباب التي لا تعد.
ويعلل ابن سينا الرسوبيات الحديثة أيضا بأنها رسوبيات بحر قد طفي على اليابسة وعند انكشافه فإنها تتحجر، ولكن صخور الجبل القديمة تكون قابلة للتفتت أكثر، فيقول:
ويجوز أن يعرض للبحر أيضا أن يفيض قليلا قليلا على بر مختلط من سهل وجبل، ثم ينضب عنه، فيعرض للسهل منه أن يستحيل طينا، ولا يعرض ذلك للجبل. وإذا استحال طينا كان مستعدا لأن يتحجر عند الانكشاف أي ظهور الحجارة ويكون تحجره تحجرا سافيا قويا. وإذا وقع الانكشاف على ما تحجر، فربما يكون المتحجر القديم في حد ما استعد للتفتت. ويجوز أن يكون ذلك يعرض له عكس ما عرض للتربة، من أن هذا يرطب ويلين ويعود ترابا، وذلك يستعد للحجرية.
ويشبه ابن سينا التفتت بتجارب قد عملها فيقول:
كما إذا نقعت آجرة وترابا وطينا في الماء، ثم عرضت الآجرة والطير والتراب على النار، عرض للآجرة أن زادها الاستنقاع استعدادا للتفتت بالنار ثانيا، والتراب والطين استعدادا للاستحجار أقوى.
ويختتم ابن سينا فصله الشيق عن الجبال فيعرض فلسفة علمية قد عرفت في الجيولوجيا الحديثة بما يسمى بقانون تتابع الطبقات:
وهو أن الطبقات التي تترسب أولا هي الأقدم، والتي تليها هي الأحدث إذا لم يحدث ميل، فيقول:
ويجوز أن ينكشف البر عن البحر وكل بعد طبقه، وقد يرى بعض الجبال كأنه منضود سافا سافا، فيشبه أن يكون ذلك قد كانت طينتها في وقت ما كذلك سافا سافا، بان كان ساف ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساف آخر فارتكم، وكان قد سال على كل ساف جسم من خلاف جوهره، فصار حائلا بينه وبين الساف الآخر، هذا ما يسمى الآن بعدم التوافق، فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انشق وانثره ما بين السافين. وأن حائلا بين أرض البحر قد تكون طينته رسوبية، وقد تكون طينية قديمة ليست رسوبية ويشبه أن يكون ما عرض له انفصال الارهاص من الجبال رسوبيا. فهكذا تتكون الجبال.
وبهذا يكون ابن سينا قد جاء بكل المستلزمات الأساسية لنشوء علم الأرض الجيولوجيا بالمعنى الحديث الذي نعرفه الآن، فقد أكمل ملاحظات الأقدمين وزادها بملاحظاته، ونظمها وأخرج منها غير المعقول وصاغها الصياغة العلمية الصحيحة الجيدة. وما جاء به العلماء الغربيون من بعده بعدة قرون لم يكن سوى زيادة المشاهدة بعد ما قرأوا علومه، وأعطوه الاصطلاح العلمي الأوروبي، ونسبوا تلك المفاهيم والقوانين لهم، ونسوا أو تناسوا ما صنع هذا العالم الجليل.
حمد البيك بن محمد بن محمود بن نصار.
اشتهر باسمين معا: فبعض يطلق عليه اسم: حمد المحمود، وبعض اسم حمد البيك.
مرت ترجمته في الصفحة 230 من المجلد السادس، ونزيد عليها هنا ما يلي:
مما تميز به عهد حمد البيك بروز نهضة شعرية في جبل عامل اجتمع فيها ثلة من الشعراء حول حمد فكانوا شيئا متميزا في الحياة الشعرية في جبل عامل على امتداد هذه الحياة قبلهم وبعدهم.
ولا بد لنا قبل الدخول في التفاصيل من أن نلم إلماما موجزا بتلك الحياة التي تسلسل فيها الشعر العاملي منذ صدر الاسلام حتى عهد أولئك الشعراء:
في العهد الأموي لقد ماشت الحياة الشعرية في جبل عامل أزهى العهود العربية ثم لما ابتدأت تلك العهود بالانحدار ظلت هي في طريقها السليم لم تتعسف ولم تتدهور. ففي العهد الأموي مثلا عندما تألق جرير والفرزدق والأخطل، وتوارى الشعراء من طريقهم فخلت الساحة لهم وحدهم يصولون ويجولون، تصدى لهم شاعر عاملي فنازلهم وثبت لهم، واستطاع ان يظفر ببعضهم ظفرا مرموقا، ولم يجرؤ غيره على أن ينزل من البلاط الحاكم منزلتهم، هذا الشاعر هو عدي بن الرقاع العاملي، وليد هذا الجبل وربيبه وخريجه. ومن المؤلم أن مدرسي الأدب عندنا ودارسيه يجهلون كل شئ عنه، في حين أنه كان شيئا مدوي الأثر حتى إن شاعرا فحلا مثل أبي تمام لا يأنف عن التمدح به والاستشهاد بذكره فيقول: