في تشكيلة الآراء والحكم الأخرى، لأنها تربط ربطا دقيقا بين ضغط المال من أجل المراكمة وزيادة الثراء، وبين الاستئثار التملكي المتفاقم، الذي تتضخم فيه الأثرة، ويضيع الايثار.
وما أراده علي بن أبي طالب في قوله: فما جاع فقير إلا بما متع به غني إيجاد رابطة عدل وشراكة في الحق، لأن المال مال الله والعيال عيال الله بالنتيجة، وكل مال ليس محمودا إذا لم يكن فيه حق للفقير والمحتاج والمحروم والسائل.
ولا يتوقف الشريف الرضي عن الاعلان بان الفقر ليس عيبا، وإنما العار في المال غير المحمود.
فيقول:
ما الفقر عار وإن كشفت عورته * وإنما العار مال غير محمود ويكرر الشريف الرضي قناعته بان المال وجد للسخاء والجود، وأن الشجاعة التي لا تعني غير الجود بالنفس ترتبط بصفة الجود بالمال، وبذلك يتحلى المرء بأحسن الصفات وأجملها.
وهو يقول:
لقد عاف أمواله من يجود * وقد طلق النفس من يشجع وهو يدين الشخص الثري الذي لا يجود:
وجدوا وما جادوا ومحتقب * للوم من أثرى ولم يجد ويستوحي الشاعر من حكمة علي بن أبي طالب القائلة:
لكل امرئ في ماله شريكان: الوارث والحوادث، ما يتوصل به إلى إدانة جمع المال خارج الشرط الإنساني الصحيح، فالمال وسيلة وليس غاية، أو صنما يسجد له الإنسان ويخدمه، وهو يرتبط بحق الإنسان في العمل، وبحريته، وبحق الرزق المكفول من الله تعالى لابن آدم، فيقول:
وما جمعي الأموال إلا غنيمة * لمن عاش بعدي واتهام لرازقي وما يمنع الشرفاء والكرام من جمع المال إلا التعفف، والحق، فإذا جاءت الأموال بين أيديهم، فإنهم يخرجون سلطانها من أفئدتهم، ويجرون تصريفها بما فيه الخير والفائدة. وهم يعلمون خطر المال أكثر من سواهم، مهتدين بكلمة علي بن أبي طالب: المال مادة الشهوات، لكن سلطانه بعيد الشأو، وكما قال الرضي:
قد يبلغ الرجل الجبان بماله * ما ليس يبلغه الشجاع المعدم لا تخدعن عنه فرب ضريبة * ينبو الحسام بها ويمضي الدرهم ولا تغيب عن الشاعر الحكمة التليدة:
إذا قل مالي قل صحبي وإن نما * فلي من جميع الناس أهل ومرحب وخاتمة الأمر إن ذم المال لا يعني امتداح الفقر، فالفقر هو الموت الأكبر والفقر في الوطن غربة.
وإنما يعني رفض توثين المال وحسبانه غاية الغايات، فما هو إلا وسيلة، وأداة، تصليح إن وضعت في موضع خدمة الناس، وتفسد إن وضعت في موضع إذلال الناس، وخلق العداوات، وتأجيج الإحن والمحن.
الغربة الاجتماعية غربة الناس أولا تحسب الغربة الاجتماعية وجها مباشرا من وجوه الاغتراب السياسي، لأنها تتصل اتصالا وثيقا بالظروف السياسية، وتقلبات الأحداث، ومصائر الأشخاص الفعالين في جهاز الدولة أو في صفوف المجتمع. وتسهم العوامل الموضوعية، والنفسية، في إبراز الجوانب الاجتماعية للظاهرة السياسية، والوجوه السياسية للظاهرة الاجتماعية.
وفي جميع الحالات المتغيرة، تكون الوضعيات والعلاقات الاجتماعية، من نتائج الأمر السياسي، ولكنها في الوقت ذاته تصبح من أسبابه، وعوامله المحركة، سلبا أو إيجابا.
وتتعرض سيكولوجية الجماعات إلى تغييرات مهمة، تبعا لنوع المراحل السياسية التي تجتازها، وكذلك، تبعا لمدى جثوم التاريخ القريب على زمنها لمدة أطول أو أقصر. لأن اعتياد الجماعة البشرية على العيش في ظل مرحلة معينة لفترة طويلة، بالقوة أو بإرادتها يؤدي إلى تعودها على صفات جماعية، أو شبه جماعية، قد لا تكون من خصائصها الثابتة، وإن كانت بالنتيجة تقرب منها.
وتختلف الجماعات البشرية فيما بينها من الناحية السيكولوجية، وكذلك تختلف الجماعة البشرية الواحدة في ما يسمى ب السمات والخصائص باختلاف مراحلها التاريخية، حيث لا توجد سمات وخصائص نهائية، وأبدية. وأن قانون التفاعل لا يسمح بوجود خصائص مطلقة. لكن بعض الخصائص النسبية تبدو وكأنها خصائص مطلقة من طول استمراريتها.
ومن هنا يقال في بعض التحليلات السياسية والانطباعات الثقافية عن بعض المجتمعات والشعوب إنها غافلة، أو كسولة، وعن بعضها الآخر إنها متمردة، وثابة.
وأول خذلان فاجا الشريف الرضي، هو خذلان العوام، الذين ورد ذكرهم في شعره باسم الناس. إنهم أصلا مستلبون، وهم في حالتهم تلك غير قادرين على إعانة بطل متقحم في كفاحه العادل. وتبلغ الغرابة مبلغا مدهشا، في سيكولوجية الجماعات، إنها أي الجماعات تندفع أحيانا بهوجائية عمياء ضد أبنائها ومفكريها وأبطالها، استجابة لأوامر سياسية صادرة عن السلطة، فتنكل بهم، ثم تندم متأخرا.
يمكن أن نعثر على مثل هذا السلوك، في مراحل عديدة من أزمنة الانحطاط في التاريخ العربي، بعد أن عفا الزمن على عصر الازدهار العربي الاسلامي.
فأول غربة، واغتراب، بالمعنى الاجتماعي، عند ما وجد الشريف الرضي انعدام الناصر بالدلالة الاجتماعية.
من هنا، وربما أكثر من ذلك، كانت أعماقه تنز بمرارة الخذلان، وقصيدته التي أشرنا إليها سابقا والتي قال فيها: إذا عربي لم يكن مثل سيفه، كانت على نقيض عادة الشعراء في اختيار مقدمة القصيدة في النسيب، والتشبيب، وذكر الطلول، أو في مداخل أخرى، بدأت بتقرير