قومه وأهله، يدخل عصره وبانتظاره المريدون الذين يريدونه متشقا سيفه فقط، إلا أنه يقتحم العصر بابتسامة القلب، عاشقا كبيرا، ظل في الحب غلاما تتقصاه الجميلات.
كان للشريف الرضي مذهب في العشق، وفي أنشطة سياسية وفكرية كثيرة تتوفر إمكانية صياغة المذهب، أما في العشق، فان صياغة مذهب للعشق عمل مذهل.
وقد توصل الشريف الرضي إلى رسم مذهبه في العشق من خلال تجربته الواقعية المثيرة. ويبدو أن ثراء شخصيته كان يدفع به في كل اهتمام إلى أقصاه ففي الشعر يصبح أشعر قريش ومن أشهر شعراء العرب، وفي السياسة يصبح نائب الخليفة، أمير الحج، نقيب الطالبيين، وفي الأدب والفقه والنحو يصبح عالما لا يشق له غبار، ثم في العشق يصبح أمير العشاق، ومعجم العشق.
لقد برز عمر بن أبي ربيعة في الغرام فكان شعره ديوان حياته وغرامياته إلا أنه لم يطرح مذهبا، لأنه كان يتبع إحساساته اللذية، وبرز الشعراء العرب الذين اعطى كل واحد منهم قلبه لفاتنة واحدة، قيس لليلى، وجميل لبثينة، وكثير لعزة... إلخ فأبدعوا وأجادوا، لكنهم أعطوا طرازا من الحب، رائعا، ومتميزا، إنما لم يصل إلى مستوى المذهب في العشق.
كان الشريف الرضي لوحده تجربة متكاملة، فقد اندفع في العشق إلى النقطة البعيدة، إلى حبة القلب، وما أبعدها! فأي واحد ذلك الذي استطاع أن يصل إلى حبة قلبه، ومن الحبة، حبة القلب، جاء الحب! فيناغيها، ويشاورها، ويستجيب لهتفتها! وأي واحد ذلك الذي يستطيع الوصول إلى حبة قلب محبوبه، فيقدم لها صلاة الروح، واذعان الولاء، ومناجاة التدليل، وواجب الحراسة العشق هو جسر الغيب ما بين حبات القلوب المتآلفة.
وفي ملكوت العشق، كان الشريف الرضي عذريا في عالم الرغبة، وراغبا في عالم العذراوية، ومزيجا رائقا من الزهد، والرغبة، مع كائنات بشرية جميلة، مترعة بفيض الجمال، المطل من العيون والخدود، والشفاه، وفي مواسم الحج، التي يحضرها أميرا وشهيرا كان كل شئ يلتمع بسرعة، مثل برق. عين البدوية التي تومض إيماضة الدنف، وخدها الذي يتضرج بحمرة الاشتهاء الخجول، وينشق الهوى من صندوق الجسم كزلزال، لا يتجاوز عمره عمر موسم الحج، ثم ينقضي كل شئ، وكان نبضة القلب التي يتعلق بها مصير حياة بأكملها، ليست إلا نغمة، حائرة، تائهة، غريبة، سرعان ما يرميها اعصار الكون في وديان العدم.
كان الشعراء العشاق يطاردون نساءهم الفاتنات، والشعر فضيحة.
وحتى لو لم تكن للشاعر قصة غرامية، فإنه يتناول قصة الآخر محيلا إياها في شعره إلى موضوع، وتجربة، فكيف إذا كان الشاعر يكتوي بنار الحب إنه يستصرخ الزمان، ويستنطق الموتى، ويشهد الأحياء والأموات والأشياء والكثبان والجداول والأباعر على فرحه أو على حزنه.
ولقد شهدت جزيرة العرب عشرات الشعراء، الذين كانوا في الغرام مثل دون جوان وكازانوفا لكن امارة العشق ظلت معقودة من نواصيها، إلى الشريف الرضي.
ففي صلب طبعه كان جماليا كبيرا. يقتنص سرحات الاشراق الفاتن على الوجوه، لأنه كان يراها بعين القلب التي لا تخطئ. فكان غير محتاج إلى مقاييس الاحساس، لادراك جمال الجميل، لأن الوتر واحد بين الناظر والمنظور، فرنة هنا تنشئ إلفتها النغمية هناك!
الشعور بالجمال كان لدى الشريف الرضي أكبر من شعور الشعراء الآخرين، الذين وصلوا إلى الحب من خلال جذبات الاحساس. لقد عشقوا من خلال تأثير العيون الحوراء، والحواجب الزجاء، والشفاه اللمياء، والأعناق المسبوكة، والصدور الناهدة، وغير ذلك مما نطقت بهم قصائد الغزل، أي أنهم عشقوا الحسي، والجزئي، ثم استوطنوا الحسي والجزئي أيضا، وعجزوا بسبب الطبيعة البشرية والثقافية، طبيعتهم عن رفع الحسي إلى مستوى الأبدي، والجزئي إلى مستوى الكلي، فجاءت قصائد الغزل متشابهة إلا من فروق بسيطة، فهذا شاعر يحب امرأة سمراء، وذاك يحب امرأة شقراء. هذا يحب امرأة قصيرة، وذاك يحب امرأة طويلة، واخضعوا تسمية القلب إن جاءت في أشعارهم، إلى سيطرة الرغبة ونداء اللذة، فكان القلب بريد الشهوة، أو قناعها المحترم الذي تستخدمه للتضليل، والتخليص من الفضائح والتعفيف الشعر من الاستخدامات العضوية الأخرى المحرجة غير ذلك، تماما، كان الشريف الرضي، لأن مفاهيمه عن الجمال كانت من معطيات نفسه الشريفة، المتسامية... فهو في علاقته بالناس، وبالطبيعة، وكان يتصل بالأعمال المشتركة، مبرهنا بتجربته الحياتية. إنه والناس والطبيعة من عمق واحد وينبوع واحد.
وحين كان الناس لا يرون إلا الظواهر الخارجية، كان هو مدركا أن في داخله تضطرم دفعات الينابيع الجوفية للطبيعة والكون، فكان يصغي إليها أتم اصغاء، وكانت هي التي تهديه، وتقوده، وتجعله صادقا مع نفسه ومع سواه، فالذي يدرك حركة الأعماق في الكون الهائل ويصيخ سمعا لايقاعها المستضاف في جسده، هو وحده الذي لا تغره المظاهر وهو وحده الذي تتفتح عينه متعرفة على المدى الأكبر، فيعود يرى ما لا يراه الآخرون، ويبتدئ بالكلي مترحلا من خلاله إلى ملاحظة الجزئي، فالعين، عين المرأة الفاتنة، أو عين الغزال، ليست جميلة بذاتها، بل هي جميلة في علاقتها ب كلية الطيف الشمسي للجمال.
فالشعور بالجمال، هو تصور بالكلية، والأبدية الجمالية، هو انتساب إلى جلال الكون المتوحد في الجمالات التي يهرع إليها المتولهون، هرع العطشان إلى الماء الزلال.
وفي كل عشق تمثل العين مركز التأثير الذي يسرع بارسال برقيته إلى القلب، ولم يفت المفكرين والشعراء تشبيه العين بالشمس، في تأثيرها على الأحياء، فيما تعطي وفيما تميت، وكذلك في شكلها.
وكما سترى، فان الشريف الرضي اعطى للعين رسالة كونية، لأن العيون المقدسة هي التي تزيح الحجب السميكة، فترى ما ليس يرى، وتقرب ما هو متباعد وتدمج ما هو متعارض، وتلغي اضطراب الأشكال الخارجية في فنية وجمالية النسق.
إن كلية الجمال وكلية الجلال، وكلية الحق، وكلية العدل والخير،