هي شرط العشق الصحيح، والوله الذي تقضي الأيام ولا ينقضي.
والشاعر الجمالي، وأي جمالي آخر، شاعرا كان أو غير شاعر، يحمل في داخله معزوفات الكون الجميلة التي يستدل بها على كل جميل. ومن ذلك العلو الذي تتوحد فيه كليات الجمال والجلال والخير، يعاين النظر كل ما هو جميل فيفرد له مكانة الخصوص، وفي وحدة الأفق الجمالي الكوني تتضايف وتتجاور الأشياء الجميلة مثلما تتضايف وتتعايش وتتكامل مويجات وأمواج البحر في الايقاع الأزلي لها في الصخب وفي الهدوء.
لقد أتاحت الرؤية الجمالية الشمولية للشاعر الشريف الرضي استيعاب الجميل بدلالات الجلال خلافا لما حصل لدى الشعراء الغزليين، الحسيين الذين أطنبوا في ذكر المفاتن الجسدية.
إن عين الشريف الرضي، هي عين الجمال التي رأت بروح الجلال، لذلك ما كان له كبير مغنم في الأوصاف الحسية المباشرة، وحسبه أنه كان عفيفا قوي المروءة.
وهو القائل:
ويمنعني العفاف كان بيني * وبين مآربي منه هضابا والقائل أيضا:
أرى برد العفاف أغض حسنا * على رجل من البرد القشيب ومذهب الشريف الرضي في العشق، يرقى بتغرد السمات الشخصية له إلى مستوى غربة واغتراب المحبين الكبار، الذين عصفت بحيواتهم تنهيدة الشوق في كونية سريعة التبديل لأجزائها المعطوبة، أو المقطوعة، أو التي حان أو يحين أجلها.
اغتراب الحب إن الرؤية الشمولية للشريف الرضي في الحب والجمال هي لسان حاله، وصفته الماثلة في طبيعته، وطبعه.
ولمعرفة خصوصية تجربة الشريف الرضي في العشق، ينبغي إحالة العشق إلى الحب وهو الدائرة الكبرى للقلب.
وسبب الاقرار بشمولية الحب على العشق، فذلك لأن العشق مرتبة من مراتب الحب، التي أولها الهوى، ثم العلاقة، ثم الكلف، ثم العشق، ثم الشغف، ثم التتيم، ثم الشوق.
وإذا كانت تلك هي مراتب الحب ودرجته فان الحب يتسع ويتنوع بعدة أنواع، فهناك حب الأهل، وحب الأصدقاء، وحب المرأة، وحب الأشياء، وحب الطبيعة، وهناك الحب الروحي، الخ...
وأحسن عشق العاشقين إذا كانوا محبين، تطهرت نفوسهم من البغضاء، وتسامت بالحنان والمودة والحب.
ويظهر في مجمل شعر الشريف الرضي أنه محب كبير يخفق قلبه بحب الأهل والأصدقاء والناس والأماكن، أي أن حبه للمرأة كان من نور جنس مشع بالحب، ممتلئ بالعاطفة. والبشر في طبائعهم، يتباينون، فبعضهم خلق ألوفا، محبا، والبعض الآخر خلق مبغضا، لئيما، والبعض الثالث موزع بين الاثنين يحب حينا، ويبغض حينا، تسوقه دواعي المصلحة والرغبة فلا يستجيب لغيرها. أي أن عقله وقلبه يخدمان تيار غريزته غير المشذبة.
وكانت نفس الشريف الرضي المتطهرة بالشرف والاستقامة والسخاء، قد ألفت الحب، فلا عجب إن كان ذلك عاملا مهما من عوامل غربته، بل في المقدمة منها. ولا بد من الإشارة إلى عام تغريبي كبير، كان له أثره البالغ في نفس الشاعر الحساسة، وتجربته في الحب، ذلك هو وفاة الأم.
فكما كانت نكبة الشاعر بسجن والده نكبة الحب الأولى، فان نكبته الكبرى حلت بموت أمه كانت بعد سجن أبيه التعويض العاطفي الكبير له.
لقد اهتزت أركان حياته اهتزازا عنيفا، حين فقد محبوبته المقدسة أمه فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم التي أسبغت عليه نعم الحب، والرعاية، والحماية، فكانت له خيمة، وسندا، وأي سند!
فكانت أول غربة هي فقدانه لها، وقبل ذلك قال جده زين العابدين: فقد الأحبة غربة!
وتبوح قصائد الرثاء عادة بتلك الغربة بوحا بعيدا، عند موت الأم خاصة، فكانت قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي أحبها حبا شديدا، لأنها كانت له أما وأبا، تفجيعا كبيرا، فصاح طعينا، وهو يحن إلى الكاس التي شربت بها، ويهوى لمثواها التراب:
ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذما * فما بطشها جهلا ولا كفها حلما إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى * يعود كما أبدي ويكري كما أرمى لك الله من مفجوعة بحبيبها * قتيلة شوق غير ملحقها وصما أحن إلى الكاس التي شربت بها * وأهوى لمثواها التراب وما ضما ويقول:
وما انسدت الدنيا علي لضيقها * ولكن طرفا لا أراك به أعمى كذلك كانت رثائية أبي العلاء المعري حينما دهمته مصيبة أمه، في سنة 400 وكان في السابعة والثلاثين من عمره:
دعا الله أما ليت أني أمامها * دعيت ولو أن الهواجر آصال مضت وكأني مرضع وقد ارتقت * بي السن حتى أشكل الفود أشكال وقال أيضا:
مضت وقد اكتهلت فخلت أني * رضيع ما بلغت مدى الفطام كما كان يقول في رسالة له إلى خاله:
وحزني لفقدها كنعيم أهل الجنة، كلما نفد جدد.
فكيف يكون الرثاء، وكيف تكون الغربة، والشريف الرضي تطوح به الفادحة الفدحاء، بموت الأم التي تجسدت فيها كل ضروب المحبة، والعون، والحنان، فكان له في همزيته جئير، يتناوح فيه كل الباكين الذين فقدوا في أنفسهم شيئا لا يسترجع بعد فقد الأم:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي * وأقول لو ذهب المقال بدائي وأعوذ بالصبر الجميل تعزيا * لو كان بالصبر الجميل عزائي طورا تكاثرني الدموع وتارة * آوي إلى أكرومتي وحيائي كم عبرة موهتها بأناملي * وسترتها متجملا بردائي