التشيع الشعبي بصبغة لم تمح فسنوا سنة الاحتفال بعاشوراء على مثال بكائهم أمواتهم وانتحابهم عليهم في منتصف القرن الرابع، وجعلوا عيد غدير خم عيدا شعبيا كعيد الربيع.
ليس البويهيون هم الذين سنوا سنة الاحتفال بعاشوراء، بل أن الاحتفال بها كان متصلا قبلهم بأبعد الأزمان، ولم يكن يجري بشكل جماهيري، لأن السلطات كانت تمنع ذلك، وكان يجري ضمن البيوت الرحبة الواسعة ويضم من الناس ما يتسع له كل بيت، وكانت تنشد في هذه الاحتفالات الأشعار الرقيقة التي تبكي الناس وتشجيعهم. وكل ما فعله معز الدولة هو أنه أباح الاحتفالات الجماهيرية، ومنح أصحابها حريتهم فأخرجوها من دائرتها الضيقة إلى الدائرة الأوسع.
وليس البويهيون وحدهم هم الذين يبكون على أمواتهم وينتحبون عليهم، ليكونوا مثالا للباكين المنتحبين، فكل الناس تبكي على أمواتها وتنتحب عليهم.
وأما عن عيد غدير خم وأن البويهيين اخترعوه وجعلوه عيدا شعبيا شبيها بعيد الربيع، فهو أيضا داخل في باب الأوهام، فعيد غدير خم الذي يطلق عليه اسم عيد الغدير كان يحتفل به قبل البويهيين. وما فعله البويهيون هنا هو عين ما فعلوه في احتفالات عاشوراء وهو أنهم أطلقوا الحرية للناس فخرجوا به من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع.
ولم تقتصر هذه الاحتفالات الواسعة على مناطق نفوذ البويهيين، ففي مصر الفاطمية كان يوم الغدير من الأيام المشهودة في تاريخها، ولا يزال عيد الغدير في اليمن العيد الشعبي الأول.
وأبو العلاء المعري نفسه كان يحتفل بعيد الغدير مع المحتفلين به في بلاد الشام فهو القائل:
لعمرك ما أسر بيوم فطر * ولا أضحى ولا بغدير خم فما دخل البويهيين في احتفالات مصر واليمن وبلاد الشام.
أما قول الدكتور منيمنة بان البويهيين حكموا العراق حين الناس فرق وأهواء وشيع فسلطوا عليها الخلاف.
فنقول له: ما دام الناس فرقا وأهواء وشيعا، فليسوا في حاجة لمن يسلط عليهم الخلاف.
نعم أن البويهيين حين حكموا وجدوا أن فريقا من الشعب محروم من أبسط حرياته، ومضطهد مطارد، فمنحوه حريته ورفعوا عنه الاضطهاد والمطاردة، حتى إذا حاول أحد من هذا الفريق أن يستغل ما منحوه ذرة من الاستغلال، أو يتجاوز شعرة من الحدود المرسومة للجميع أوقفوه حتى إنهم لم يتوانوا في أن ينفوا عن بغداد لفترة رجلا كالشيخ المفيد هو الرجل الأول والعالم الأكبر. وهكذا فهم لم يتحيزوا لأحد.
العرب والمأمون ثم البويهيون ورد الدكتور حسن منيمنة على مقالنا فرددنا عليه بما يلي:
بعد أن يسلم الدكتور منيمنة معنا بان كلمة الخراسانية في الأيام الأولى للحركة العباسية لا تعني الفرس بل تعني في الأصل عرب خراسان، يقول بان الأمر لم يكن كذلك في عهد المأمون، ويسألني هل كنت أريد أن أطبق هذه النتيجة على كلمة خراسانيين المستعملة زمن المأمون.
وأني لأجيبه بكل وضوح: نعم.
وما الذي حصل في تلك المدة المنقضية بين نشوء الدولة العباسية وخلافة المأمون من أحداث أزالت العرب من خراسان لنبدل الرأي في الخراسانية؟
أين ذهبت تلك القبائل العربية من تيمم وربيعة واليمن وكانت تنزل خراسان كما يخبرنا الجهشياري؟
وما الذي جرى على احياء العرب في خراسان كما حدثنا عنها البيان والتبيين؟
وأين مضت ظعائن العرب التي كانت تخرج من مرو إلى سمرقند كما أخبرنا العقد الفريد؟
وأين صارت جمهرة بني تميم في خراسان التي قرأنا عنها في البيان والتبيين؟ وأين انتهت جموع اليمن وربيعة وقيس في جرجان، وأوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلد بهم؟
وماذا كان مصير الجماهير العربية التي خاطبها نصر بن سباز قائلا: يا أهل خراسان؟
وماذا كانت نهاية خطط العرب ومنازلهم في خراسان وغير خراسان وقص قصتها علينا البلاذري؟
أين انطوى ذلك كله لنقول أن كلمة الخراسانية في الزمن العباسي الأول لا تعني ما تعنيه أيام المأمون؟
يقول الدكتور منيمنة أن المؤرخين استعملوا كلمة الخراسانيين أو أهل خراسان للتدليل على الكتلة الفارسية التي وقفت إلى جانب المأمون في وجه الكتلة العربية التي ساندت الأمين. وقد اختارت الكتلة خراسان مقرا ومنطلقا لايصال المأمون إلى الخلافة.
ونقول له: وما الدليل على ذلك؟
أنه يستشهد بان الفضل بن سهل حذر المأمون من الهاشميين والعرب الساعين لخلافة الأمين. ثم يورد عبارة المسعودي التي جاء فيها على لسان الفضل مخاطبا المأمون أنه يخشى: أن يثب عليك أخوك فيخلعك وأمه زبيدة وأخواله من بني هاشم.
ونقول: ليس في هذا القول تحذير من العرب، بل فيه تحذير من زبيدة أم الأمين وأقربائها. ومن الطبيعي أن يكون هوى زبيدة وأقربائها الأدنين مع الأمين، وليس المأمون في حاجة لنصيحة الفضل ليدرك هذا ثم يستشهد بقول الطبري وابن الأثير بان أهل خراسان قالوا عن المأمون: ابن أختنا وابن عم نبينا، لأن أمه كانت فارسية.
ونقول له: إننا لا ننكر أن للمأمون أخوالا وأقرباء في خراسان وإنه يمكن أن يقولوا هذا القول. ولكن هل هؤلاء كل خراسان؟ وهنا نعود فنكرر أسئلتنا السابقة عن مصير الشعب العربي الذي كانت تتمثل به خراسان، وهل انقرض بهذه السرعة؟ أو هل يمكن أن يكون بعيدا عن هذه الأحداث المصيرية؟ كان من إصطلاحات المؤرخين يومذاك أن يقولوا: في خراسان جمجمة العرب وفرسانها.