انعدام العهد في أكثرية الناس، منذ البيت الأول، وهو القائل:
لأي حبيب يحسن الرأي والود * وأكثر هذا الناس ليس له عهد ثم:
أكل قريب لي بعيد بوده * وكل صديق بين أضلعه حقد وتصعد عنده حدة التشخيص والإدانة، درجة عالية فيعلن:
الناس حولك غربان على جيف * بله عن المجد إن طاروا وإن وقعوا فما لنا فيهم إن أقبلوا طمع * ولا عليهم إذا ما أدبروا جزع ويرى بنفسه أن الناس هم الداء، وأن الصراع بين العاقر والمعقور، صراع المفترس والفريسة، هو الذي يطغى على ما عداه، فيا لضيعة من يرنو إلى القضية: فقال:
يطيب النفس عن قطعي علائقها، إني أفارق من فارقت معذورا كن في الأنام بلا عين ولا أذن * أو لا فعش أبد الأيام مصدورا غيب الرجال ظنون قبل مبحثه * فما طلابك أن تلقاه موفورا فما نلائم إلا عاد منصدعا * ولا نثقف إلا عاد ماطورا محل البلاد ولا جار تغص به * يضوي الفتى ويكون العام ممطورا والناس أسد تحامي عن فرائسها * إما عقرت وإما كنت معقورا كم وحدة هي خير من مصاحبة * ينسى الجميع ويغدو الفذ مذكورا من كشف * الناس لم يسلم له أحد الناس داء فخل الداء مستورا ولقد كان ما ناله من الناس أسوأ جزاء، وهو الذي جبل على حب الناس، فهو في شجاعته، وكرمه، وكفاحه، وفي مسؤولياته التي تولاها، وصارع، وضحى فيها، لم يكن إلا منافحا عن الناس.
وكان ذلك، من قبله، قضية ومسؤولية وواجبا، وليس مجرد عواطف إيجابية بسيطة، لكن كم هم أولئك الذين يقرون بشجاعة الشجاع، وتضحية المضحي، وجود السخي، وهو يفعل ما يفعل من أجل الناس.
لا شك إن العدد لضئيل، لأن غالبية الناس فيما إذا خيم عليها الجهل، وغشت ضمائرها غشاوات الكذب والتدليس، وأجبنت عن قول الحق، فإنها تسمي الشجاعة تهورا، والكرم تبذيرا وسذاجة، والتضحية خبالا.
ورغم أنها تعلم في قرارة النفس، ما هو الصحيح، إلا أن الجبن الطاغي، الذي لا تعترف به ومتى اعترف إنسان بجنبه؟! يسوع لها اتهام الغريب عنها، فتضيف إلى السهام والرماح التي تتناوشه رماحا جديدة.
فيصبح أكلة السهام، وأكلة المغتاب... فالذي شكا تبذل الشاعر صحا به، والناس الذين أبعد الهوى من أجلهم، فقال:
أنا أكلة المغتاب إن لم أجنها * شعواء يحضرها العقاب الغائب وكأنما فيها الرماح أراقم * وكأنما فيها القسي عقارب قد عز من ضنت يداه بوجهه * إن الذليل من الرجال الطالب إن كان فقر فالقريب مباعد * أو كان مال فالبعيد مقارب وأرى الغني مطاعنا بثرائه * أعدائه والمال قرن غالب يشكو تبذلي الصحاب وعاذر * أن ينبذ الماء المرنق شارب من أجل هذا الناس أبعدت الهوى * ورضيت أن أبقى وما لي صاحب وأي الليالي إن غدرن فإنه * ما سن أحباب لنا وحبائب غربة الأصدقاء ثانيا ويرتفع مستوى الغربة الاجتماعية في نفس الشريف الرضي، إلى حالة اغترابية أكثر مأساوية، من تلك التي لفها به خذلان أكثر الناس، وهي خذلان الأصدقاء، وهي الحالة الثانية من الاغتراب الخانق الذي يسد أبواب التضامن الأخوي والروحي بوجهه.
إن الصديق هو قوة المساندة في السراء والضراء، في الفرح والترح، وهو الحبيب الذي تشترك نبضات قلبه مع نبضات قلب صديقه، والغريب من لم يكن له حبيب كما قال علي بن أبي طالب ع، وأناس مثل الشريف الرضي الذي يتسمون بالسخاء والسماحة وطهارة النفس، يجدون أصدقاء كثرا، وهم يحمون الصداقة، ويسهرون عليها، لكنهم سيئو الحظ، لأن أصدقاءهم يضيعون صداقتهم. وليس أكثر عذابا للنفس الشريفة الحساسة من هجر الصديق، أو ابتعاده، أو نسيانه حق الصداقة، وحق الصداقة هو التلازم، والتذاكر بالمودة، والتشارك أمام تصاريف الزمان.
والإنسان مثل طيف عابر، وكذلك زمنه، فلا غنى له والحالة هذه عن معاضدة الصديق، الذي يحفظه في غيبته، ونكبته، ووفاته.
وحق، ما قاله علي بن أبي طالب: ع أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم. لكن الشريف الرضي وهو الأشجع، كسب الاخوان، فخسروه، وكم ضيع أناس خيرة الناس، وأفضل الصداقات لأسباب تافهة، لا يعدو بعضها الغرور، أو لسماع القال والقيل، أو قبول مصاحبة أهل السوء أو سوى ذلك، لكن الذين هجروا الشريف الرضي، كانوا يتهيبون من علو همته، وعظمة مسعاه، ولا يحلق مع الباز إلا الباز، فأشفقوا على أنفسهم من طول الرحلة، وأشفق عليهم الرضي أيضا، لكنه ظل يشكو غدر الخلان والأصدقاء، وهذا أسوأ ما يناله امرؤ في حياته.
ويحار الإنسان في تفسير ظاهرة تعرض الشرفاء لغدر وخيانة الأصدقاء، هل هو سوء الحظ أم البلاء؟ وهو كما ذكرنا بدرجات، وبأشكال؟ وهل الشريف يغري الصديق بخيانته، بسبب شرف طبعه، ونبل نفسيته، وترفعه عن العقاب؟ أم أن الحسد يحرك ذيله في نفس الصديق؟ الذي يبر بنفسه علو مكانة صديقه الشريف، فيغار، ويحقد، وينتقم؟
قد تكون الصورة هنا أكثر وضوحا. فالصديق يرى صفات صاحبه النبيلة، مثلما في مرآة، يرى تفوقه، وجدارته، ونفاسة معدنه، وهو يرى نفسه أيضا، يرى عجزه عن اللحاق بتلك السمات السامية، ولأن نوازع الشر موجودة في الصدر، فإنه بدلا من أن يعتبر تلك السمات قدوة يهتدي بها، فان نوازع الضحالة تخبط خبطتها، فتخلق الحسد والغيرة، والكراهية المتدرجة، ثم الانتقام اللئيم.
وأبديا، ظلت خيانات الأصدقاء مروعة، ومهينة وإنسان مثل الشريف الرضي يعرف الناس، ويعرف اختياراته جيدا، لأنه القائل:
تشف خلال المرء لي قبل نطقه * وقبل سؤالي عنه في القوم ما اسمه