ووقع هذا القول أحسن الوقع في نفوس الوطنيين فاجتمعوا وقرروا تأليف حزب وطني باسم حزب الشعب وكان في الطليعة: الشهبندر وسعيد حيدر وحسن الحكيم مع من انضم إليهم مثل فارس الخوري وفوزي الغزي ولطفي الحفار وغيرهم.
واختير الشهبندر رئيسا للحزب وفارس الخوري نائبا للرئيس، وأجيز الحزب في الحال ما أن طلب الإجازة، واحتفل الحزب بانطلاقه في شهر حزيران سنة 1925 وخطب في الحفلة عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وإحسان الشريف، وكان خطاب فارس الخوري وهو واضع نظام الحزب محددا لمنهج الحزب في ستة بنود يهمنا منها في بحثنا هذا بند واحد يعطينا صورة التفكير السوري الوطني في تلك الأيام وهو الذي ينص على ما يلي: وحدة البلاد السورية بحدودها الطبيعية. والسياسة الحاضرة قضت على سورية بالتقسيم والتجزئة، وشطرت منها جزءا كبيرا في الجنوب ويقصد فلسطين وضعته في أيد أخرى، كما بترت منها أقساما في سائر الجهات وقطعت أوصال الوطن الواحد يقصد ما ألحق بلبنان... فحزب الشعب يعتقد أن البلاد السورية ضمن حدودها الطبيعية مأهولة بشعب واحد تجمعه روابط الجنس واللغة والعادات والأخلاق.
ومضى الحزب يرص الصفوف وينظم الأمور. ثم فوجئ بتأزم الموقف في جبل الدروز بين الفرنسيين وأهل الجبل. ثم وقعت الوقعة الأولى بين الفريقين في 22 تموز سنة 1925 التي أبيد فيها الفرنسيون بقيادة الكابتن نورمان قرب قرية الكفر، وعدد الفرنسيين لم يتجاوز المئة والتسعين جنديا، إلا أنها اعتبرت وقعة كبرى لنتائجها الخطيرة، ولأنها كانت فاتحة الصدام الكبير.
وهنا تنبه حزب الشعب لما يمكن أن يفعله من تحويل هذه الحركة من حركة محلية جبلية، إلى حركة سورية عامة، فبدأ رجاله اتصالات سرية برجال الجبل، وعقدت في بعض المنازل الدمشقية اجتماعات طويلة بين الجانبين ونوقشت المواقف بوضوح وصراحة.
وهنا كان لسعيد حيدر دوره الحاسم في الموضوع، فقد كان الدروز يخشون في أعماق نفوسهم من هيمنة الأكثرية التي لا ينتمون إليها، ففاتحوا بهذا الأمر سعيد حيدر باعتباره لا ينتمي لتلك الأكثرية، فطمأنهم وقال لهم إن الفكر الاستقلالي يترفع عما يتوهمون، وضرب لهم مثلا نفسه وكيف أنه في موقعه من الحركة الوطنية لا يحس بغبن ولا انتقاص لحقه، وإنه بين أخوانه في المكانة التي يستحقها. فأقنعهم بذلك.
وهنا كان الفرنسيون أعدوا حملة قوية للانتقام من معركة الكفر وتأديب الثائرين، فانصرف عند ذلك رجال الجبل إلى جبلهم لمواجهة الموقف.
وزحف الجنرال ميشو بحملته المؤلفة من سبعة آلاف جندي فتلقاها الثوار الدروز في أوائل آب سنة 1925 فكانت هزيمتها هزيمة ماحقة.
فأدرك الجنرال ساراي أن الأمر جد، وأنه كان مخطئا باستخفافه بما يقع فلجا إلى اللين وأرسل وفدا درزيا لبنانيا لمعالجة الموقف والتوصل إلى صلح شريف.
وبينما هذا الوفد على وشك النجاح في مهمته، وكانت آراء الميالين إلى المصالحة هي التي تكاد تتغلب على آراء المصرين على الاستمرار بالثورة وفي طليعتهم سلطان الأطرش، وصل وفد من حزب الشعب للتحريض على مواصلة الثورة والوعد بدعمها من دمشق ثم تعميمها في سورية كلها، فرجحت كفة سلطان باشا واستقوى بالوفد الشعبي وتعهداته.
وكانت السلطة الفرنسية أدركت تحركات حزب الشعب، فأصدر الجنرال ساراي في 26 آب أمرا باعتقال هيئته الإدارية. ولكن رئيسه الدكتور الشهبندر كان التحق بالثوار في الجبل، كما أن سعيد حيدر وحسن الحكيم كانا تمكنا من الخروج من سورية والانضمام إلى الثورة.
واستطاعت السلطة اعتقال فارس الخوري وفوزي الغزي ويوسف حيدر وآخرين فأرسلت بعضهم إلى أرواد والبعض الآخر إلى الحسكة.
وهكذا انتهى حزب الشعب انتهاء سريعا ولم يعمر طويلا، ولكنه كان بهذا العمر القصير ذا أثر من أعظم ما تتركه الأحزاب من آثار، وحسبه إطلاق الثورة السورية الكبرى.
وبعد خمود الثورة أطلق معتقلو أرواد وفيهم كما قلنا فارس الخوري وفوزي الغزي، ثم مات الغزي ميتته الرهيبة في الخامس من شهر تموز سنة 1929 بعد أن أصبح الرجل الأول في دمشق فرثاه رفيقه في سجن أرواد فارس الخوري بقصيدة عاطفية يقول فيها:
سلوا القبور عن الصحب الألى ذهبوا * فخر العروبة والصيابة النجب عاشوا وللحق في أفواههم رسل * ماتوا وللعهد في إيمانهم كتب قالوا قضى المدرة المحبوب طالعه * قضى الزعيم الجرئ الفيصل الإرب يا راحلا وقلوب الناس تتبعه * وكل قلب له في سعيه أرب يبكيك أحرار سوريا وأنت أخ * يبكيك دستور سوريا وأنت أب عرفت فيك سجايا كلها شمم * عرفت فيك حديثا كله أدب كهوف أرواد مدت بيننا نسبا * يا حبذا السجن بل يا حبذا النسب أخا السجون أخا المنفي أخا وصبا * قد فرق الموت ما قد ألف الوصب إن أدركت سيدا منا منيته * فما علينا ونحن السادة العرب لنا من الصبر درع لا ينهنهه * ريب المنون ولا السيف الذي خضبوا أما الشهبندر وحيدر والحكيم فلم يعودوا إلى دمشق إلا سنة 1937 عند قيام الحكم الوطني الأول. وقد سماهم نجيب الريس في جريدته القبس في مقال افتتاحي عند عودتهم: أصحاب الصيحة الأولى.
ولم يكن من لقب يطلق عليهم أصدق من هذا اللقب.
فقد كانوا فعلا أصحاب الصيحة الأولى التي حركت الجامد وأثارت الهامد وأطلقت المارد الشيخ سليمان بن علي بن سليمان بن راشد بن أبي ظبية الأصبعي.
قال في تاريخ البحرين المخطوط:
كان هذا الشيخ مجتهدا في المعقول والمنقول توفي في السنة الحادية بعد المائة والألف ورثاه السيد الأجل السيد عبد الرؤوف الجد حفصي وكان خصيصا به بقصيدة منها ما يتضمن تاريخ وفاته:
صاح الغراب بقاق في رجب على * موت الفقيد فأي دمع يدخر وله من المصنفات رسالة في تحريم الجمعة وقد نقضها المحقق المدقق