الحق والعفو مع الندم، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور ولكنها جماعة دماؤها حرام وجروحها قصاص، ونحن معك فقدم هواك نحب لك ما أحببت.
فعجب زياد من كلامه وقال: ما أظن في الناس مثل هذا.
ثم قام صبرة ابنه فقال: إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل، وإنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، وأما أنت يا زياد فوالله ما أدركت أملك فينا ولا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك، ونحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا، فإنك إن لم تفعل تأت ما لا يشبهك، وإنا والله نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا، فقدم هواك وأخر هوانا، فنحن معك وطوعك.
ثم قام جيفر العماني وكان لسان القوم فقال: أيها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض لك ذلك من أنفسنا، ولو رضينا لك كنا قد خناك لأن لنا عقدا مقدما وحمدا مذكورا، سر بنا إلى القوم إن شئت، وأيم الله ما لقينا يوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس.
فلما أصبحوا أشارت الأزد إلى جارية أن سر بمن معك، ومضت الأزد بزياد حتى أدخلوه دار الامارة. وأما جارية فإنه كلم قومه وصاح فيهم فلم يجيبوه وخرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزد يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه ثم ساروا إلى ابن الحضرمي وخرج إليهم ابن الحضرمي وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة فاقبل شريك بن الأعور الحارثي وكان من شيعة علي ع وصديقا لجارية بن قدامة وعلى رأي علي ع فقال: ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى.
قال: فما لبثت بنو تميم أن هزموهم، واضطروهم إلى دار سنبل السعدي فحصروهم ذلك اليوم إلى العشي في دار ابن الحضرمي، وكان ابن خازم معه فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته فأشرف عليها، فقالت:
يا بني انزل إلي، فأبى، فكشفت رأسها وأبدت قناعها، وسألته النزول، فقالت: والله لئن لم تنزل لأتعرين، وأهوت بيدها على ثيابها، فلما رأى ذلك نزل فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدار، وقال جارية: علي بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار في شئ وهم قومك وأنت أعلم، فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهما عبد الرحمن بن عمير ابن عثمان القرشي ثم التيمي، وسمي جارية منذ ذلك اليوم: محرقا، فلما أحرق ابن الحضرمي وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الامارة ومعه بيت المال قالت له: هل بقي علينا من جوارك شئ؟. قال:
لا، قالوا: فبرئنا من جوارك؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه إلى ديارهم، واستقام لزياد أمر البصرة، وارتحل ببيت المال حتى رجع إلى القصر.
وقال أبو العرندس العوذي (1) في زياد وتحريق ابن الحضرمي:
رددنا زيادا إلى داره * وجار تميم ينادي الشجب (2) لحا الله قوما شووا جارهم * وللشاء بالدرهمين الشصب (3) ينادي الحباق وحمانها * وقد حرقوا رأسه فالتهب (4) عن محمد بن قيس (5) عن ظبيان بن عمارة (6)، قال: دعاني زياد فكتب معي إلى علي ع: أما بعد فان جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم الله بينهما، فقتل الحضرمي وأصحابه! منهم من أحرق بالنار، ومنهم من ألقي عليه الجدار، ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا فصفح عنهم. بعدا لمن عصى وغوى، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فلما وصل كتاب زياد قرأه علي ع على الناس فسر بذلك وسر أصحابه وأثنى على جارية وعلى الأزد.
جعفر بن محمد القطاع.
هو أبو الحسن جعفر بن محمد القطاع المعروف بالسديد البغدادي، سكن محلة قراح ظفر ببغداد المعروفة اليوم بمحلة الطوب، وكانت له معرفة تامة بالكلام على رأي المعتزلة والمنطق والهندسة، واطلاع على علوم الأوائل وأقوالهم ومذاهبهم، وله يد طويلة في قسمة الدور وعماراتها، ويناظر في الكلام، رتب مهندسا في ديوان الأبنية للقسمة والهندسة، وكان متظاهرا بالتشيع، توفي يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة 602 ببغداد ودفن في داره بمحلة قراح ظفر وقد جاوز السبعين.
الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني.
قال في تاريخ البحرين المخطوط:
قال جدي في اللؤلؤة: لم أقف للشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني على شئ من المصنفات. وقد توفي في حيدرآباد في السنة الثامنة بعد الألف، وكان منهلا عذبا للوارد، لا يرجع القاصد إليه إلا بالمطلوب والمراد.
وللشيخ عيسى بن صالح عم جدي الشيخ إبراهيم قصيدة في مدحه. إلى أن قال: وبعد موته كان القائم مقامه في تلك البلاد الشيخ الزاهد العادل الشيخ أحمد بن صالح الدرازي من آل عصفور.
ونحن ننقل هذه الترجمة لنؤكد على استمرار الهجرة العلمية من البحرين،