عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى * وصوت إنسان فكدت أطير!
وما أشبه ذلك في الهذيان العاطفي الذي يرى الذئب عامة أقرب إلى الاستئناس من البشر كافة! إنه أدب الهزيمة العمياء الشارد من تبعات الحياة بعد أن حقن بالسموم!.
وما قصدت في هذه الكلمة إلى هذا اللون من التفكير وغربلته. بل لم يجرني إليه سوى الربط الخاطئ الذي وقع فيه شاعرنا عند ما ربط تأثره العميق من الجمال بأسباب الحرب التي ذكرها على لسان حصانه، هذه الحرب التي تحرم الإنسان من أجمل مناظر الطبيعة كما تحرمه من أعذب مفاتن الحياة.
إن الشئ الذي حرصت عليه، وأحببت أن أوصله إلى القارئ العزيز بهذه الكلمة، هو التأثر العميق الذي أيقظه جمال الطبيعة في نفس الشاعر، ذلك التأثر الذي أوجد تحويلا ولو كان التحويل وقتيا في روحه وعاطفته.
حيث أحس وهو أمام الطبيعة الفاتنة بقيمة الحياة، وأدرك وهو في نشوة هذا الاحساس العدو اللئيم لهذه الحياة. وإذا الريشة الشعرية تمتد وتصور هذا العدو، وتشن عليه غارتها العنيفة. وتستشرف الهدف وأنت ترافق الشاعر في غارته، وإذا الحرب هي الهدف الوحيد، إنها إذن هي العدو: عدو الحياة، وهي التي تتلقى نقمة الشاعر. وعند ما يشن هذه الغارة على الحرب ينطلق من ذاته المحدودة، ويتحرر منها، وتصبح الحياة كلها معنى من معاني أغنيته إن الحملة على الحرب، وتصويرها بصورها القبيحة، هي خدمة للانسانية، ولو كان من بواعثها الاحساس الآني بجمال الحياة.
هذه اللحظة من حياة الشاعر، وحياة أمثاله، لها وزنها عندنا، ولها قيمتها الكبرى. إننا نعتبر هذه اللحظة بمثابة الثمرة الناضجة في الشجرة، وإذا كانت الأشجار تقدر بثمراتها فالحياة أيضا تقدرها فيها من هذه اللحظة الخالدة وأمثالها.
إن هذه اللحظة في حياة شاعرنا تكاد تكون أصفى لحظاته. لقد تجرد فيها من مطامعه، وانطلقت فيها إنسانيته انطلاقة الجواد المكبوت في الميدان الواسع. ورأى فيها الحياة شيئا جميلا، كما رأى هذا الجمال متعة مشاعة لجميع الناس.
وتبدو ميزة هذه اللحظة إذا قورنت بأمثالها من اللحظات التي مرت بحياة غيره من الشعراء، فإذا سمعت قول المنازي مثلا:
وقانا لفحة الرمضاء واد * سقاه مضاعف الغيث العميم يصد الشمس أنى واجهتنا * فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى * فتلمس جانب العقد النظيم رأيت جمالا، ورأيت تصويرا، ورأيت إحساسا بهذا الجمال، ولكنه إحساس على رقته لا يتعدى المشاعر الفردية.
وإذا سمعت الآخر:
ولما جلسنا مجلسا طله الندى * أنيقا وبستانا من الزهر خاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه * منى، تمنينا فكنت الأمانيا أحسست بالجمال أيضا، وأحسست بالعاطفة الرقيقة الناعمة التي تشبه زغب الطائر. ولكن الشاعر لم يستطع التخلص من ذاته إلا إلى ذات أخرى يتمم وجودها إذا وجدت بجانبه سروره، واستمتاعه بالحياة استمتاعا أوسع.
فهذان الشاعران تأثرا بالجمال كما رأيت ولكن تأثرهما لم يخرجهما من نطاق الذات إلى إنسانية أوسع. أما شاعرنا المتنبي فقد كان كما رأينا روحا واثبة عبرت حدود الذات الفردية إلى الحياة كلها. ورأت في جمال الطبيعة متعة تحبب الأحياء لجميع الأحياء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حمل على الذين يشوهون الحياة، ويحولونها إلى خرائب ينعب فيها البوم. شئ واحد أخطاه التوفيق فيه، وهو الإشارة الدقيقة إلى الذين يثيرون الحروب. فقد نسب الحرب إلى المعصية، وهذه المعصية الجديدة جزء من المعصية الكبرى التي وقع فيها الإنسان الأول.
إن الذي يقرأ ديوان الشاعر يرى فيه تمجيدا كبيرا للحرب، ويرى الفخر بالقتل والاعتزاز به من أظهر أفكاره:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم وما أشبه ذلك من الآراء التي ترى القيم كلها بالقتل والقتال، الأمر الذي جعل بعض الكتاب الرجعيين يعده في هذه الناحية بمصاف نيتشه الأديب الألماني المعروف الذي مهد بآرائه إلى الفلسفة الهتلرية. فما الذي جعل الشاعر يتحول هذا التحويل فيشن الغارة على الحرب، ويعدها معصية؟! إنه الاحساس بالجمال جمال الطبيعة إن هذا الاحساس جعل الشاعر ينتشي... جعله كالنحلة التي تمتص رحيق الأزهار، ثم تحوله إلى عسل حلو لذيذ، ثم تقدمه طعاما شهيا لمن يرغب بأكله... جعله ينسى كل ما كان يطمح إليه، ويرغب فيه من عجرفة الملك، وعنجهية السلطة!.
لقد هرب في تلك اللحظة الخالدة من أوهام الامارة، وجاه السلطة، وما أشبه ذلك من المثل العليا التي كانت سائدة في عصره، وانطلقت فيه الذات الإنسانية الرفيعة، وتحررت من خرافات الطوائف الحاكمة، وراحت تزقزق كما تزقزق العصافير في الغابة، وتغني أغنية الحب.
ولكن هذه اللحظة لم تطل ولم تمتد، وإنما نامت بنوم ذلك الاحساس الذي أيقظه جمال الطبيعة. بيد أنها ألقت علينا درسا عميقا بالرغم من قصرها. لقد صورت لنا الأعجوبة التي يستطيع أن يصنعها جمال الطبيعة، وجمال الحياة.
الشيخ أحمد آل طعان القطيفي الستري البحراني ابن صالح.
مرت ترجمته في الأعيان ونذكره هنا بتفاصيل أوسع:
ولد في سترة من قرى البحرين عام 1251 ونشأ في مدينة المنامة من البحرين.
درس المقدمات من نحو وصرف وعلوم عربية وتجويد ومنطق في البحرين.
ثم توجه إلى النجف الأشرف وأكمل دراساته في الفقه والأصول عند كبار علمائها.
فأساتذته في البحرين: السيد علي بن السيد إسحاق البحراني، والشيخ عبد الله بن الشيخ عباس البحراني. وفي النجف: حضر بحوث الفقه والأصول عند الشيخ مرتضى الأنصاري، وبعد وفاة الشيخ الأنصاري، درس