ولقد رثى نفسه قبل أن يموت بأسبوعين بقصيدة في نحو ستين بيتا سماها الأشباح ولما كان لا يستطيع أن يمسك القلم بيده فقد كان ينظم الأبيات ويحفظها ثم يتلوها على من يحضر ليكتبها عنه. وهذه أبيات منها:
أبوارق الآمال والآلام * لوحي لعلك تكسفين ظلامي فلقد بدا شبح الهموم على الدجى * ملكا ركاما قام فوق ركام يوحي إلى نفس الكئيب كابة * خرساء تخلع مهجة الضرغام متوسطا شبحين ذاك لمحنة * الوطن الأسير وذا لفرط سقام فلعلتي شبح رهيب كالردى * ولموطني شبح جريح دام وقال مداعبا صديقا له اسمه نافع:
أجهدت نفسك لاعبا * لكن لعبك كان ضائع والضر طبعك دائما * كذب الذي سماك نافع وسعد زعيم من زعماء السياسة المحنكين دون أقل شبهة، ومقامه السياسي معروف لدى الجميع، وقد طغت السياسة عليه حتى لم يعد لمن يعرف سعدا عن كثب أن يتبين فيه شيئا غير السياسة، وهو رجل كان من القابلية واللياقة بحيث يستشف كثيرا من الحوادث ويتكهن بكثير من العواقب قبل حدوثها، وله آراء جد صائبة، ينفرد بها بين مئات السياسيين في هذا البلد، ويقدرها له الذين عالجوا المشاكل السياسية عند ما خبروا بواطنها، فقد أوتي حظا كبيرا من الذكاء والفطنة، وأن لإصابته الهدف وحسن قيامه بما يعهد به إلى نفسه في أشد الأوقات حراجة الأثر الكامل الملموس. ولعل ذكاءه كان أبرز خصلة من خصاله الغريزية.
وسعد حين يرسل الرأي السياسي يرسله مدعوما بالأدلة التي لا تقبل التشكيك فهو يعتمد المنطق في جميع تفكيره ومن طريق المنطق يسعى للظفر.
وكم رأيته وهو متحمس لرأي، ثم لا يلبث أن يعود لينقضه من أساسه حين يبدو له رأي آخر سواء كان هذا الرأي له أو لغيره ممن يسمع به ما دام يلمس فيه الحجة الصائبة، لذلك كان سعد أبعد ما يكون عن العناد في آرائه السياسية، وكانت سلبيته في القضايا الوطنية منطقية معقولة، ولعل لجرأة سعد أثرا كبيرا أيضا في شخصية لا تقل عن مواهبه وقابليته السياسية والأدبية.
وصادق سعدا كثير من الرجال على اختلاف نزعاتهم من حزبيين وغير حزبيين، وبالامكان القول أن كثيرا من أصدقائه قد صادقوه تحسسا بمنزلته وحبا بروحه وإعجابا برجاحة عقله وتعلقا بمبادئه القومية العربية.
وقلما زرته ولم أجد عددا منهم يخوضون وإياه مختلف الشؤون كأنهم في ناد لا يؤمونه إلا ليغذوا أنفسهم بما يطيب، وما ينبغي أن تتغذى به النفوس الحرة التي لا يقيدها أي قيد ولا يمنعها مانع من أن تقول ما تحس به.
لقد كان سعد بارزا في حياته، والذين برزوا وماتوا كثيرين ولكن أمثال سعد كانوا أقل من القليل فهو نسيج وحده من حيث مواهبه الخاصة ومن حيث وطنيته وتوفر ملكات الزعامة السياسية في نفسه، تلك المواهب التي استدرت دموع أصدقائه وغير أصدقائه على حد سواء حزنا عليه وشعورا بالخسارة الفادحة، فكانت فاجعة البلاد به عامة وراح ولم يكسب من دنياه غير هذا الشعور وهو كل ثروة الذين يعيشون للناس، وتوفي قبل أوانه في الوقت الذي أوشكت الزعامة الوطنية والسياسية أن تنحصر فيه.
ومما يذكر في سيرة سعد صالح أنه عند ما كان متصرفا في لواء المنتفك هدد الفيضان المنطقة بكارثة ماحقة وقد عمل هو بحكم منصبه على الحؤول دون وقوع هذه الكارثة، واستطاع بما اتخذه من تدابير وما بذله من جهود أن ينجح في ذلك ونجت المنطقة من الكارثة الفيضانية المدمرة. فرأى فريق من أبناء بلدة سوق الشيوخ أن يقدموا له هدية رمزية هي عبارة عن قنطرة فضية ضمن إطار فيه صورته وتحت الصورة هذه الأبيات من نظم الشيخ محمد حسن حيدر أحد أفاضل سوق الشيوخ:
عليك لواء الحمد شكرا يرفرف * لأنك في دنيا العلى متصرف بحزمك كافحت الحوادث وانجلى * عن الشعب ليل بالكوارث مسدف وقفت أمام الخطب سدا ممنعا * وذا موقف أنى يحاكيه موقف فلله أيام عليك عصيبة * تهدد آمالا لنا وتخوف طغى الماء فيها والسدود ضعيفة * وهمة أرباب المزارع أضعف فقاومته حتى تثنى عناته * وكافحته حتى انتهى وهو أعجف فيا سعد ما زالت خطاك سديدة * وما زالت الآمال باسمك تهتف بك الزرع لاقي من يرق لحاله * ولم ير قبلا من يرق ويعطف إلى سوق الشيوخ مكرما * جهادك في رمز عن الحب يكسف يفدمه ذكرى لموقفك الذي * سيبقى مدى الأجيال وهو مشرف سعيد حيدر.
ولد في بعلبك وتلقى دراسته الثانوية في دمشق، وتخرج من معهد الحقوق في استنبول، وكان خلال دراسته فيها من بين الشبان العرب الذين أدركوا نوايا الأتراك الطورانيين في سيطرة العنصر التركي سيطرة كاملة على الدولة العثمانية والسعي في تتريك العرب بكل وسيلة، وقد باشروا ذلك فعلا، وأخذوا يمهدون لتطبيق خططهم تمهيدا عمليا. لذلك انضم المترجم إلى أخوانه الشبان العرب العاملين على مقاومة الطورانيين وانقاذ البلاد العربية من شرهم، فكان عنصرا فعالا في التكتلات العربية الثورية المتألبة في استنبول.
ولما أنهى دراسته وعاد إلى بلاده عين في سلك القضاء، ثم لم تلبث الحرب العالمية الأولى أن أعلنت، ثم حلت الهزيمة بالدولة العثمانية، واحتل الفرنسيون الساحل السوري اللبناني، والإنكليز فلسطين، وبقي بيد العرب القسم الداخلي من سورية، وهو ما اصطلح على تسميته بالمدن الأربع:
دمشق وحلب وحمص وحماه وما يتبعها.
ثم تجلت نوايا الفرنسيين في السيطرة على هذا القطاع الذي بقي وحده مستقلا استقلالا تاما، وكان أن تكتل الاستقلاليون العرب في دمشق يخططون لدفع شر الفرنسيين عن بلاد الشام، فكان سعيد حيدر في الطليعة من هؤلاء عاملا نشيطا.
ثم كان ما كان من احتلال الفرنسيين لدمشق بعد معركة ميسلون وقضائهم على الاستقلال العربي الناشئ، فكان سعيد حيدر ممن اضطروا للنزوح عن البلاد مع من نزح من القادة الذين كان الفرنسيون قد حكموا عليهم بأحكام غيابية قاسية بينها الاعدام وهو ما حكم به المترجم.
وبعد أن استقر الفرنسيون في سورية بدأوا بتقليص هذه الأحكام وإسقاطها تدريجيا عن المحكومين وأخذ هؤلاء يعودون واحدا بعد واحد،