وعن بشر بن نصر، وعن منصور بن إسماعيل، وابن بحر، وأخذ العربية عن ابن ولاد، وكان لحبه الحديث لا يدع المذاكرة، وكان يلزمه محمد بن سعد الباوردي الحافظ، فأكثر عنه من مصنفاته، فذاكرة يوما بأحاديث، فاستحسنها ابن الحداد، وقال: اكتبها لي، فكتبها له، فجلس بين يديه، وسمعها منه وقال: هكذا يؤخذ العلم، فاستحسن الناس ذلك منه، وكان تتبع ألفاظه، وتجمع أحكامه. وله كتاب الباهر، في الفقه نحو مائة جزء، وكتاب الجامع.
وفي ابن الحداد، يقول أحمد بن محمد الكحال:
الشافعي تفقها والأصمعي * تفننا والتابعين تزهدا قال ابن زولاق: حدثنا ابن الحداد بكتاب خصائص علي رضي الله عنه، عن النسائي، فبلغه عن بعضهم شئ في علي، فقال: لقد هممت أن أملي الكتاب في الجامع.
قال ابن زولاق: وحدثني علي بن حسن، قال: سمعت ابن الحداد، يقول: كنت في مجلس ابن الإخشيذ، يعني: ملك مصر، فلما قمنا أمسكني وحدي، فقال: أيما أفضل أبو بكر، وعمر، أو علي؟ فقلت: اثنين حذاء واحد، قال: فأيما أفضل أبو بكر، أو علي؟ قلت: إن كان عندك فعلي، وإن كان برا فأبو بكر، فضحك.
قال: وهذا يشبه ما بلغني عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنه سأله رجل: أيما أفضل أبو بكر، أو علي؟ فقال: عد إلي بعد ثلاث، فجاءه، فقال: تقدمني إلى مؤخر الجامع، فتقدمه، فنهض إليه، واستعفاه، فأبى، فقال: علي، وتالله لئن أخبرت بهذا أحدا عني لأقولن للأمير أحمد بن طولون، فيضربك بالسياط.
وقد ولي القضاء من قبل ابن الإخشيذ ثم بعد ستة أشهر، ورد العهد بالقضاء من قاضي العراق ابن أبي الشوارب لابن أبي زرعة، فركب بالسواد.
ولم يزل ابن الحداد يخلفه إلى آخر أيامه.
وكان ابن أبي زرعة يتأدب معه، ويعظمه، ولا يخالفه في شئ، ثم عزل عن بغداد ابن أبي الشوارب بأبي نصر يوسف بن عمر، فبعث بالعهد إلى ابن أبي زرعة.
قال ابن خلكان: صنف أبو بكر بن الحداد كتاب الفروع في المذهب، وهو صغير الحجم، دقق مسائله، وشرحه جماعة من الأئمة. منهم: القفال المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي إلى أن قال: أخذ عن أبي إسحاق المروزي.
ومولده يوم مات المزني (1). وكان غواصا على المعاني محققا.
توفي سنة خمس وأربعين وثلاث مائة. وقيل: سنة أربع.
قلت: حج، ومرض في رجوعه، فأدركه الأجل عند البئر والجميزة يوم الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة أربع، وهو يوم دخول الركب إلى مصر، وعاش تسعا وسبعين سنة وأشهرا، ودفن يوم الأربعاء عند قبر أمه. أرخه المسبحي. انتهى.
هذا ما ذكره الذهبي في كتابه. وفي هذه الترجمة أمور تلفت النظر وتبعث على التفكير.
1: يبدو جليا أن صاحب هذه الترجمة كان شيعيا في حقيقته، وهل أصرح في تشيعه من تصريحه بتفضيل علي على من فضله.
2: يبدو كذلك أن ملك مصر أبا القاسم بن الأخشيد كان كذلك شيعيا، وهل من شئ أدل على تشيعه من أنه لما سال المترجم أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فاجابه المترجم أما عندك فعلي، وإن كان برا فأبو بكر.
وهذا يستدعي دراسة واسعة عن الدولة الاخشدية بعامة وعن أبي القاسم بخاصة، كذلك دراسة الوسط المصري في ذلك الوقت الذي جعل عالما كبيرا كالمترجم يتبنى الفكر الشيعي بهذه الصورة، ويجهر بهذا الفكر أمام صاحب السلطة الموافق له فيه، ثم يتجنب الجهر به خارج أبواب صاحب السلطة.
ثم عنايته هذه العناية بكتاب خصائص علي للنسائي، وارتباطه بشخص النسائي هذا الارتباط الوثيق وتتلمذه عليه. ثم غضبه لما بلغة عن بعضهم شئ في علي ع حتى لقد هم أن يخرج عن تحفظه ويملي الكتاب في الجامع.
ثم لا ننسى له هذا الظرف الذي يشاركه فيه ابن الإخشيد، حين قال الأول للثاني إن كان عندك فعلي وإن كان برا فأبو بكر.
3: القول نفسه يقال عن الرجل الآخر الذي ورد اسمه في هذه الترجمة: محمد بن عبد الله بن الحكم.
أبو نصر الفارابي محمد بن أحمد بن طرخان.
مرت ترجمته في الصفحة 103 من المجلد التاسع. وقد حقق الدكتور جعفر آل ياسين كتابه التنبيه على سبيل السعادة، فكتب عنه ما يلي:
1 التعريف العام بالكتاب وغاياته:
إن المصطلح السائر لدلالة التنبيه هو كون الشئ الذي لا يحتاج إلى برهان زائد على ما تقدم عليه من إيضاحات والمتقدم هنا هو كتاب تحصيل السعادة كما أوضحنا في تحقيقنا له.
أما في هذا الكتاب فإننا نجد أن الفارابي ت 339 ه. يقرر أن الكمال هو الغاية الأصيلة التي يتشوقها الإنسان في تطلعه نحو حياة أكثر سعادة وسلامة، لأن السعادة الحقيقية هي آثر الخيرات طرا، باعتبار أنها تطلب لذاتها لا لشئ آخر يتوسل به إليها.
وهذه السعادة في ضوء تطبيقاتها العملية تتصف أفعالها بحالين: إما حال مذمة، أو حال محمدة، وهي في الحالين لا تتعدى كونها أحد ثلاثة:
أ أفعال يحتاج الإنسان فيها إلى استعمال أعضاء بدنه وآلاته، كالقيام والقعود والنظر والسماع.
ب أفعال مصدرها عوارض النفس، كاللذة والغضب والشوق والفرح والخوف.