ولاء حسبما تقتضيه المصلحة.
وإذا كان الإنكليز يقولون في هذا العصر: بان لا صداقة دائمة ولا عداوة في السياسة، فقد كان هذا هو التطبيق العملي للناس جميعا منذ وجدت السياسة حتى اليوم. ولماذا يريد الدكتور منيمنة أن ينفرد البويهيون من بين سياسيي العالم بفضيلة الثبات على الصداقة مهما تعارض هذا الثبات مع المصلحة؟ فإذا لم ينفردوا بها كان ذلك عنده دليلا على التشكيك في ولائهم الديني...
ثم يتساءل عن مقدار تدينهم، كأنما المطلوب أن يكونوا أئمة جمعة وجماعة.
ويذكر أن ابن الجوزي نقل ما يدل على جهل معز الدولة بأمور الدين، كأننا نقول أن معز الدولة فقيه الأمة ومرجعها في الفتيا.
ويقول أن ابن الجوزي نقل أيضا ما يدل على جهل معز الدولة نفسه حتى بسيرة حياة الإمام علي، كأننا نقول أن معز الدولة كان أستاذا للتاريخ في الجامعة على اننا لا نبرئ ابن الجوزي من الافتراء على البويهيين.
ونحن نسأل الدكتور منيمنة هل بين الملوك السلاجقة من كان أعلى درجة من البويهيين سواء في مقدار التدين أم في الفقه وفي التاريخ، وهل يقدح ذلك عنده في أيمانهم؟
ثم يقول: أن مسكويه قال أن لعلي بن بويه مجلس شراب، وأن هذا كان حال أخيه معز الدولة...
ونقول: إذا كان لمن كانوا يحملون لقب أمير المؤمنين مجالس شراب، فهل نستغرب أن يكون لمن دونهم مثل هذه المجالس؟
ولا يرى الدكتور منيمنة إيصاء الرجل بان يدفن في بعض الضرائح ما يدل على التدين. ونقول له: أن هذا أكبر ذليل على التدين، فغير المتدين لا يهمه أين يدفن.
وعن ركن الدولة البويهي يقول ابن الأثير: كان حليما كريما واسع الكرم كثير البذل، حسن السياسة لرعاياه وجنده. رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم، متحرجا من الظلم، مانعا لأصحابه منه، عفيفا عن الدماء يرى حقنها واجبا وكان يحامي على أهل البيوتات وكان يجري عليهم الأرزاق ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة وينتصب للمظالم، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات ويلين جانبه للخاص والعام.
ثم يختم ابن الأثير وصفه له بقوله: رضي الله عنه وأرضاه.
هذه صورة وضاءة عن الحكم البويهي جلاها لنا ابن الأثير، وإذا لم تكن هذه صفات المؤمن المتدين الثابت على العقيدة، فكيف تكون صفاته؟ وحين يدعو ابن الأثير لركن الدولة البويهي بقوله: رضي الله عنه، فهو يقرنه بكبار الصحابة الذين يدعى لهم وحدهم بهذا الدعاء.
وإذا كان هذا رأي المؤرخين القدماء في واحد من احكام البويهيين فلنستمع إلى رأي مؤرخين حديثين في حكم البويهيين:
يرى الأستاذ حسن أحمد محمود الشريف في كتابه العالم الاسلامي في العصر العباسي أن العصر البويهي هو عصر حرية المذاهب ويستند إلى أقوال الصاحب بن عباد في رسائله حيث يقول: وقد كتبت في ذلك كتابا أرجوه أن يجمع على الألفة ويحرس من الفرقة وينظم على ترك المنازعة والجنوح إلى الموادعة، فان المهادنة تجمل بين الملتين فكيف بين النحلتين.
ويعلق على ذلك الدكتور فاروق عمر وهو ينقل هذا الكلام في كتابه الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية قائلا: على أن لهذه السياسة جانبها الايجابي حيث لجات المذاهب المتنازعة إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام لتأييد آرائها، فحدثت نهضة علمية وكثرت التصانيف في المناظرات وأسست دور العلم.
استدراك على المستدركات : السيد سعيد صالح مر بحث عنه في المجلد الأول من المستدركات ثم بحث ثان في هذا المجلد، وقد عثرنا بعد ذلك على كلمة كان قد نشرها عبد القادر البراك بعد وفاة سعد تتضمن قصيدة من قصائده هي التالية:
كان من جناية السياسة على الأدب في حياة السيد سعد صالح أن حجبت خطبه ومقالاته السياسية وتقاريره المعتمدة عن مشاكل المحافظات التي تولى إدارتها، موهبته كشاعر مطبوع كان بمقدوره لو انقطع للشعر أن يقف كتفا إلى كتف بجانب كبار شعراء العراق في مطلع القرن العشرين.
فلقد هيات بيئة النجف الشعرية سعدا لأن يكون في عداد شداة الشعر، كما أن ملكاته المتعددة قد جعلته قادرا على أن يودع عواطفه الجياشة، ومعانيه الرائعة، وتطلعاته الوطنية والقومية في قوالب من الشعر، تميزه عن سواه من شعراء الفترة التي لمع فيها اسمه بين رواد الآداب، فلقد قصد القصائد المطولة فكانت ديباجته فيها معيدة للأسماع والقلوب الديباجة العباسية التي تلت مدرسة الشريف الرضى، ونظم الموشحات والأناشيد في مختلف الأغراض الوطنية والوجدانية فكان خاتمة أمثاله بين كبار الوشاحين على قلة ما هو ميسور مما نظمه ونشره.
ولقد سبق لي نشر فصل ضاف عن شاعرية سعد صالح في جريدة الحرية في الخمسينات، ولقد صح عزمي على الإفاضة فيما كتبت مستعينا بما وقفت عليه من قصائده وأناشيده، وما استقر في ذهني من آراء وأحكام به و بآرائه.
وإلى أن يحين الوقت لظهور هذه الدراسة لا بد لي من أن أطرف القراء بقصيدة هي واحدة من آثار عراقية كثيرة حفلت بها خزانة الأستاذ مصطفى علي، وقد بعث بها إليه سعد صالح من الكويت، أثر مهاجرته إليها بعد أن أجهض الاستعمار البريطاني وأعوانه ثورة 1920 الخالدة وشرعوا بمطاردة الأحرار الذين ساهموا فيها وكان الشاعر في الطليعة منهم.
ذلك أن السيد سعد صالح كان طالبا في دار المعلمين، فلما اندلعت الثورة غادر مقاعد الدراسة ليحتل موقعه في خنادقها، صادحا بشعره بأهدافها ومقاصدها التحررية، ومساهما بالكفاح الفعلي مع صفوف المجاهدين، وقد أدى دوره كاملا، ولكن ملاحقة السلطات له ولاخوانه المناجيد المساعير اضطرته إلى الفرار مما كان ينتظره من انتقام تعرض له الكثير من أمثاله.
ومن الكويت، البلد الذي اختاره منفى اختياريا له، شرع الشاعر بارسال