إن تمض فالمجد المرجب خالد * أو تفن فالكلم العظام بواقي حذور الاغتراب ارتكز الاغتراب السياسي للشريف الرضي على أصل قومي إسلامي للاغتراب فهو من حيث الهوية القومية عربي الأصل والنشأة، وكذلك عربي النزعة والاتجاه، وهو ابن أرومة عربية قحة، حملت لواء المجد العربي. أي أن عروبة الشريف ليست انتماء قوميا تقليديا، بل هو انتماء إسلامي ثوري، متجذر في أرضية عربية متينة، وفي تاريخ عربي إسلامي مجيد وعريق.
وهو في أغلب شعره الافتخاري كان يبث أفكاره، لا بصورة افتخار شخصي منعزل، وإنما في موقف موحد: فردي وقومي. فهو إذ يفتخر بنفسه وبأهله، فإنما يرمي بكل ثقله التاريخي لصالح أمته، كما أنه في الوقت عينه يذكر مجد العشائر العربية وبطولاتها في معرض الافتخار الذاتي.
فقصائد شعره التي تتضمن أفكاره، ونداءاته، واستطراداته التاريخية، وأمانيه تربط الذاتي والقومي ربطا محكما، وطبيعيا تماما.
فترد أشعاره عن شجاعة قبائل عربية بالقوة الافتخارية نفسها التي يرد فيها ذكر شجاعته، وشجاعة قومه، أو بالاسترسال نفسه. وغالبا ما تنمو القصيدة وهي تنتقل من شجاعة الأهل والقوم إلى شجاعته الشخصية، أو بالعكس، لأن الرابطة بين الذات والأهل والعروبة، هي رابطة موحدة، تشكل ركيزة عضوية واحدة في حياة الشريف الرضي. ويأخذ الافتخار، في هذا المنظور، قيمته الخاصة منزها عن تمجيد الذات المرضي، الذي وقع صرعى فيه، وبه، شعراء تياهون بأنفسهم عجبا، أصابهم مس من جنون العظمة، فأطار صوابهم، وأضلهم، وأفقدهم القضية الجوهرية للانتماء إلى شعوبهم وأوطانهم.
إن روح التحدي التي ترعرعت في جسده، كانت تأخذ من حقه في المسؤولية قوة متنامية، فكان شعره يزداد حماسة وفخرا وشعورا بالرئاسة، فيقول وهو في العشرين تقريبا:
وعن قرب سيشغلني زماني * برعي الناس عن رعي القروم وما لي من لقاء الموت بد * فما لي لا أشد له حزيمي ويقول:
ما أنا للعلياء إن لم يكن * من ولدي ما كان من والدي ولا مشت بي الخيل إن لم أطا * سرير هذا الأغلب الماجد ويلاحظ في البيت الأخير أنه يعرض بالخليفة....
إن حقيقة العربي، في تصورات الشريف الرضي، عميقة المعنى، قوية الدلالة، وراسخة الحضور، مما يمكن الاستنتاج منه، وبسهولة تامة، أن تعامل الشاعر مع هذه الحقيقة، ليس مرحليا أو مرهونا بأزمات شخصية تتصل بالمطامح، وإنما هي ركن جوهري في منظومة أفكاره، كما أنها موجه ومنظم لسلوكه ولكثير من الأفعال التي أقدم عليها، أو كان في نيته الاقدام عليها.
وبالنسبة لكثير من الشعراء قد ترد النزعة العربية الاسلامية بصورة كلمات مفردة، أو أبيات شعر محدودة، لمناسبة معينة، لكنها عند الشريف الرضي ذات أولوية فكرية ومصيرية تكتسح كثيرا من الأحيان الاهتمامات العاطفية الأخرى، لتظل سيدة الموقف في القصيدة.
ويقود التطابق مع القضية إلى إبداعية متقنة، تقوم على وحدة المعنى والمبني. فالصدق الفكري والنفسي يؤدي إلى الصدق الفني، وكل صدق لأكثر جدية يولد صدقا آخر، وهكذا تفتتح الطرق سلسلة الولادات الجديدة، والمتآخية.
وكيف يستطيع الشاعر والفنان عموما ضبط العلاقة بين الموصوف والصفة، إذا لم يكن هو موصوفا بصفة؟!.
وبما لا يقبل الشك، إن التوصل إلى معرفة صفات الأشياء هو من ثمرات الواقعية، أي قدرة الرائي على استنتاج المرئي بمجموع أو ببعض صفاته.
غير أن الوصول إلى التشبيهات والاستعارات يدلل على ما هو أبعد وأهم من الواقعية الالتقاطية التي تأخذ بجماع المنظورات، وتعيد طرحها في الفن والأدب. ذلك لأن التشبيهات تنبثق من الأصالة الحقيقية للشاعر والفنان.
وعلى صعيد السياسة في الشعر والأدب والفن لا يتأتى للسطحيين والانتهازيين، والتوفيقيين، وصيادي الفرص النفعية، أن يقدموا تشبيهات واستعارات رشيقة، أمينة، عذراء، باهرة الاختصار، والصياغة والتدليل. قد يقدرون على تنميق أكاذيب معسولة، لكنهم هيهات، هيهات، أن يستطيعوا التشبيه والاستعارة بنقاوة إشعاعات الشمس الفجرية وهي تعانق الأرض التي أنعمت على الشمس بفضيلة الشروق والغروب، فمنح الناس الجمالين في الفجر والمساء للشمس ونسوا أن فدائية الأرض الدائرة وراء كل ذلك.
تتصل إذن نقاوة التشبيه والاستعارة، بنقاوة القائل وصفاء انتساباته إلى نفسه وإلى مجتمعه، وإلى قضيته.
هكذا يمكن أن نفهم بيت شعر واحد، يساوي أكثر من عشرات المقالات والأشعار، وحتى الدواوين. قاله الشريف الرضي وهو يجسد عروبته الاسلامية، والمضمون الذي يجب أن تكون عليه:
إذا عربي لم يكن مثل سيفه * مضاء على الأعداء أنكره الجد في هذا البيت تضمين أكبر من المطابقة بين العربي والسيف، وهو ليس اختراعا، إنما هو من وحي الفطرة العجيبة، فطرة عربية الشريف الرضي الاسلامية المزكاة بالعرفانية التاريخية والسياسية.
ثمة التصاقات جميلة لو قلنا إن العربي كالسيف، وأجمل منها لو قلنا إن السيف كالعربي، لكن قوله الشريف الرضي: إذا عربي لم يكن مثل سيفه خرجت عن نطاق البلاغة الشعرية، الوصفية، أو الاستعارية، خرجت من المعرفة المتدبرة، ودخلت في عظمة الفطرة النبيلة، التي هي المصدر الأول لكل معرفة منزهة.
لا يحس المتلقي إلا بالاحساس الواحد، وهو يقرأ أو يسمع إنشاد الشريف الرضي، أن العربي والسيف توأمان ولدا في اللحظة الواحدة،