لا يمكن أن لا يعرف وجوه أصدقائه، وأكفهم، لكن هل يكفي ذلك لمعرفة ما وراء الدخائل؟ وأيا ما كانت معرفة الشريف الرضي بالأصدقاء والخلان، فان غدرهم يجرحه جرحا لا مثيل له، دائم النزف، لأن معرفته المخذولة تطرق أوتار نفسه الحساسة المرهفة، فيكون الأنين مثل صوت ريح البادية: حزينا، حزينا، حزينا، كروح مسمرة في النكبة!
هل كانت معادلة الشريف الرضي، معادلة الناس الذين هم مثله في صفاء الاحساس والذكاء النادر؟
ولعل سمات المحب العظيم، غير هذه السمات: الحب الخارق للأم، والحب العنيف للأصدقاء، وحب البشر، والحياة، والسمو بالنفس نحو المثل والمبادئ ونحو أخلاقيات الشرف؟ وهل مي غير الرهافة، والسخاء، والشجاعة، والموهبة، فلماذا، إذا تجمعت لدى امرئ تعرض لغدر الصديق، غدر الجبان، فينام الجبان على وسادة جبنه، ويظل هو شاكيا للزمان اغترابه؟
ويربط الشريف الرضي، كل شئ بالأصول، فان أوضح ذلك، في شعره بالسببية، فقد فعل، وإن أوضح ذلك بالتجاور فقد أوما، وقد قال:
وأول لؤم المرء لؤم أصوله * وأول غدر المرء غدر خليل فالله، الله، لمن توحدت في نفسه أيكة الأصل الشريف، ومحبة الخلان!
ولله، ما يلقى من غدر من لؤمت أصوله، ومن يضع السم في كأس صاحبه وصديقه وخليله!
فطارت شكوى الرضي إلى الجوزاء، وإلى جميع محطات ذاكرة الزمن، فتشاكل الشجو والشجن والشكر في ناموس البلاء، والله الحي الشاهد:
أشكو النوائب ثم أشكر فعلها * لعظيم ما ألقى من الخلان وإذا أمنت من الزمان فلا تكن * إلا على حذر من الاخوان وكذلك قال عن معاناته من نفاق الأصحاب:
فكم صاحب تدمى علي بنانه * ويظهر أن العز لثم بناني يضم حشا البغضاء عند تغيبي * ويجلو جبين الود حين يراني مسحت بحلمي ضغنه عن جنانه * فلما أبى مسحته بسناني سبقت برميي قلبه فأصبته * ولو لم أصبه عاجلا لرماني وقال:
لحا الله دهرا خانني فيه أهله * وأحشمني حتى احتشمت الأعاديا فلست أرى إلا عدوا مكاشفا * ولست أرى إلا صديقا مداجيا وفي وحشة الوحدة، وهو يحتاج الأرض بهمته ومجده وعلو شانه، وآماله الكبيرة، يصدحه الخذلان فيرى نفسه وحيدا ليس له صديق، إذن ليس له منزل أو سكن! لكن: متى كانت لكبار النفوس مساكن؟
وظل الشريف الرضي، شاعر القلب والحكمة، يحل ثنائية التفجع بين حاجته إلى الصديق، وبين حرمانه من وفاء الأصدقاء إلا من قلة نابهين أجلاء في شكوى الدهر والزمان، وكان يتساهل في فجائع وأزمات كثيرة، لكن انعدام وفاء الأصدقاء كان ينقله فورا إلى مخاطبة الدهر الخائن، لأن الصداقة حلت في قلبه وعقله محلا لا أعلى منه ولا أرقى، فان قل الصديق كان الدهر مسؤولا عن ذلك:
توقعي أن يقال قد ظعنا * ما أنت لي منزلا ولا سكنا يا دار قل الصديق فيك فما * أحس ودا ولا أرى سكنا ما لي مثل المذود عن أربي * ولي عرام يجرني الرسنا ألين عن ذلة ومثلي من * ولي المقادير جانبا خشنا معطلا بعد طول ملبثه * منازلا قد عمرتها زمنا تلعب بين النائبات واغلة * كما تهز الزعازع الغصنا أيقظن مني مهندا ذكرا * إلى المعالي وسائقا أرنا كيف يهاب الحمام منصلت * مذ خاف غدر الزمان ما أمنا لم يلبث الثوب من توقعه * للأمر إلا وظنه كفنا أعطشه الدهر من مطالبه * فراح يستمطر القنا اللدنا لي مهجة لا أرى لها عوضا * غير بلوع العلى ولا ثمنا وكيف ترجو البقاء نفس فتى * ودأبها أن تضعضع البدنا أكر طرفي فلا أرى أحدا * إلا مغيظا علي مضطغنا ينبض لي من لسانه أبدا * نصال ذم تمزق الجننا إن الصراع يشتد، وتضاف إلى أسبابه أسباب جديدة.
وسيرى الشريف الرضي نفسه شاردا في البلاد دائما، منكورا، محروما، جريحا لأن حبل الوفاء، أنى ذهب وتوجه، يتصرم كاللعنة:
أأنكر والمجد عنوانيه * ومخبرتي عند أقرانيه ويعرف غيري بلا ميسم * مبين ولا غرة ضاحيه ألا قاتل الله هذا الأنام * وقاتل ظني وأماليه ودهرا يمول ذلاته * ولا يذخر العدم إلاليه إذا ما تماثلت من غصبة * أعاد المرار فسقانية فيا ليت حظي من ذا الزمان * رد نوائبه الجارية زمان عدا العي أبناءه * فأفصح من ناطق راغيه سؤالا فهل يخبرني سالف * من العيش قطع أقرانيه ألا أين ذاك الشباب * الرطيب أم أين لي بيض أياميه مشى الدهر بيني وبين النعيم * ظلما وغير من حاليه نظرت وويل أمها نظرة * ببيضاء في عارضي باديه يقولون داعية للشباب * فقلت ولكنها ناعيه ألا قطع الناس حبل الوفاء * وأولع بالغدر خلانيه وصرت أعدد في ذا الزمان * صديقي أول أعدائيه أضر الأنام لي الأقربون * وأعدى الورى لي جيرانيه إلى كم أخفض من عزمتي * وكم يأكل العضب أغماديه فلله عزمي لو أنه * على قدر عزمي سلطانيه ستسمع بي شاردا في البلاد * لأمر أغير إنسانيه وقد أغتدي غرض * النائبات لا يتقي الروع إلا بيه نديما جذيمة لي في البلاد * نديمان والظلمة الداجية ومما يزيد في تأثير غدر الأصدقاء والخلان على نفس الشريف الرضي مرارة، أنه شديد اللهفة على الصديق، فروح الصداقة تغزو دمه وأعصابه، وذهنه، وقلبه. وتبدو آثار قسوة الخيانة، أو الجفاء شديدة عليه إذا ما علمنا