وكان من نية السيد وعزمه أن يذهب بعد ذلك إلى الكوت ليرابط فيها مع الجيش العثماني.
وفي عصر اليوم الثالث من شعبان سنة 1333 تحرك، وأصحابه ومعهم السيد مصطفى الكاشاني وساروا إلى الكوت ووصلوا ليلة الخامس منه إلى منطقة وادي الحبيب أحد امراء ربيعة، وباتوا ليلتهم عنده. وفي صبيحة اليوم الخامس منه دخلوا الكوت ونزل السيد مهدي وأولاده وأصحابه عند الحاج حسن الحاج جودي السعيدي بطلب منه. ونزل السيد الكاشاني ومن معه في مكان آخر، وبقي الكاشاني هناك أياما ثم عاد إلى وطنه.
أما شيخ الشريعة فقد عاد إلى وطنه من قضاء الحي، ولم يصل إلى الكوت.
وأما السيد مهدي فقد لبث في الكوت مرابطا مدة أربعة أشهر كاملة، مع أولاده وجمع من العلماء والمجاهدين. وقد أصابه هناك مرض شديد.
ورابط في الكوت معه أيضا من العلماء الشيخ مهدي الخالصي والسيد عبد الرزاق الحلو.
وكان مركز الجيش العثماني الذي جمعه القائد العام نور الدين بك في شرق الكوت في منطقتين الفلاحية والسن وهما استحكامات طبيعية في طرفي دجلة. وكان العدو قد أعد العدة للهجوم على هذه القوة العسكرية الكبيرة. وفي أوائل ذي الحجة هجم بقوة هائلة على مراكز الجيش العثماني، فاضطره إلى الانسحاب ليلا من الكوت بعد مقاومة عنيفة. فأرسل السيد مهدي إلى الشيخ الخالصي والسيد الحلو وأشار عليهما بلزوم الانسحاب قبل مداهمة العدو، وأن يكون الخروج عن طريق البر في نفس الليلة التي يخرج فيها الجيش. وبدأوا فعلا بالانسحاب في الساعة السابعة غروبية من الليل، وعبروا إلى الجانب الآخر حتى لا يدركهم العدو. وفي تلك الليلة أصاب السيد مهدي رمد شديد في عينه، فاضطر إلى البقاء ليلتين عند قبيلة ربيعة، وفي اليوم الثاني مرت عليهم بواخر العدو قاصدة مدينة النعمانية وهي تبعد عن الكوت بمقدار ستة فراسخ تقريبا، فاضطر السيد مهدي وأصحابه إلى السفر عن طريق عفك والدغارة وقد أحضرت له ولأصحابه الخيول وهناك كان لا بد من أن يقطع على شيخوخته وضعفه ومرضه جزيرة عفك الطويلة راكبا على فرس وهو مشدود العينين، ومعه رجل من ربيعة يقود الفرس.
وفي الليلة الثانية من ركوبه بلغ أول عفك، فنزل عند مناحي آل الحاج طرفة، ثم واصل السير إلى محل الحاج مهدي الفاضل وأخيه الحاج صلال، ثم واصل السير إلى محل الحاج مخيف وأقام عنده تلك الليلة، وأمر باحضار سفينة له ولأصحابه عند الصباح للتوجه إلى وطنه.
وفي الصباح تحرك موكبه وقطعت السفينة ليلتين حتى وصلت إلى محل السيد حسين نجل الشاعر الكبير السيد حيدر الحلي فأقام السيد عنده ليلة واحدة، ثم توجه في صبيحتها إلى الحلة ووصلها عصرا، وحل ضيفا مكرما عند الحاج حمزة الشهربانلي وبقي عنده ليلة واحدة،.
وفي الصباح توجه بأصحابه إلى وطنه، فوصل الكاظمية في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1333.
وقد دامت رحلته سنة كاملة الا أياما قليلة. ونحن نروي هذه التفاصيل التي رواها من شاهدوها لنعطي القارئ ملامح عما عاناه أولئك الشيوخ وهم في أسنانهم العالية من البلاء دفاعا عن الاسلام في طل الدولة العثمانية التي كانت لا ترحمهم في حكمها لهم.
ومع ذلك فعند ما رأوها تواجه اخطار الاحتلال الأجنبي وقفوا إلى جانبها باسم الاسلام لأنها كانت في نظرهم تمثله في ذلك العصر.
هذا هو التاريخ الشيعي الناصع وهذه هي مواقف رحاله وقادته.
السيد منصور كمونة النجفي قال الشيخ محمد هادي الأميني:
الشئ الكثير من تراث النجف الفكري ضاع ولفه التلف والنسيان والإهمال بحيث لم يحفظ التاريخ لنا منه أي ذكر. ومن هؤلاء شاعر نجفي عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وخرج من عند أسرته ولم يعد إليها إلى أن توفي، حتى أن أسرته لم تعرف وجود شاعر كهذا في أبنائها هو السيد منصور كمونة الحسيني النجفي.
أما ولادته ونشأته ودراسته وعام وفاته وآثاره الأدبية فلم تعرف وكل هذا مجهول ومبهم والمعروف انه من أسرة آل كمونة النجفية الشهيرة بالفضل والأدب... وديوانه يدل على شاعرية وقادة وعبقرية فذة وتضلع بالغ في فنون الشعر وأبوابه.
لقد عاش الشاعر في القرن الحادي عشر ومات ولم يعرف عنه أي أثر ومضت السنون والقرون إلى أن ظهرت في إحدى مكتبات إيران مخطوطة شعرية كتب عليها ما يلي: هذا الديوان للسيد منصور كمونة الحسيني النجفي سلمه الله تعالى.
يقع في جزئين صغيرين بقطع الربع 13. 18 ورق خشن كتابة واضحة مجموع صفحاتها 154 وقد رتب الجزء الأول على حروف الهجاء من الألف إلى الياء ويحتوي على قصائد فيها المدح والحماسة والبث والشكوى والوصف والمثل والرثاء... اما الجزء الثاني فيشتمل على مواليات وعددها 250 مواليه مرتبة أيضا على الحروف وسماها الشاعر بالحسينية ولقبها بأبكار الأفكار وأنوار الأنوار وفيها الحمد والحماسة والتشبيب والرثاء والوصف والوعظ والشكوى والمثل.
جاء في أوله بعد الحمد: أما بعد فيقول العبد المذنب السيد منصور كمونة الحسيني النجفي على ساكنه ألف تحية وسلام لما ساقني القضاء والقدر من الوطن المألوف والمنشأ الذي كنت به مشغوف وكان سفري في أول عنفوان شبابي قطعت القفار وخضت البحار شرقا وغربا وصحبت كل ذي عقل ولما أمعنت نظري وصرفت فكري في تتبع إشهار العرب وعن لي بان أنشد ما تيسر لي به عن مفارقة الأهل والأوطان...
وآخر الجزء الأول هكذا: قد تم الكتاب بعون الملك الوهاب بنظم السيد منصور كمونة الحسيني النجفي وكان الفراغ منه يوم السادس في شهر صفر ختم بالخيرة والظفر من شهور سنة 1097 فالديوان أن لم يكن بخط ناقله فلا شك إنه في حياته وعلى عهده وفي آخره تملك مشوه تاريخه 1155 وفي ص 58