يعجبني أنهم إذا كثروا * قلوا غناء وإن هم كثروا وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه.
ولكن العجب في أن يهمل الطغرائي في زماننا فلا يتناوله كاتب بنقد، ولا يذكره أديب ببحث، كان هذا الشاعر العظيم من مطويات الأدب، تلك التي تطوي فلا تنشر، وتنسى فلا تذكر. ذلك في حين أن المتأمل في شعر هذا الرجل الفذ يدرك فيه سرا قلما تقع عليه في غيره من الشعراء: لا في شعراء عصره ولا في الشعراء الذين تقدموه، ولا في الشعراء الذين تلوه. وعندي أن هذا السر لا يشاركه فيه إلا شاعر واحد هو أبو العلاء المعري. أما ذلك السر فهو الجمع بين قوة الشاعرية ودقة الاحساس وصدق الوجدان وبين هدوء الطبع. أما إن ذلك سر من أسرار العظمة في الطغرائي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه سر عظمته، فذلك بان الشعر عاطفة وخيال وحركة نفسية جياشة دافقة سيالة، فإذا حكم هذه الصفات هدوء نفس طبيعي، صفا الشعر ورق وأنساب انسياب الجدول المترقرق الهادئ، ولكنه في ترقرقه وهدوئه حاد كالسيف قاطع كالفأس الباترة المحدودة.
وأبو العلاء المعري إن شارك الطغرائي هذا السر، فلا شك في أنه في نفسية الطغرائي وأذهب في الوجدان. فان أبا العلاء شاعر حكيم بطبعه متشائم بفطرته. حمل على المرأة وطغي على الإنسانية، حتى لقد أراد أن يهدم كل قائم من غير أن يعرف كيف يقيم غيره، وأن يدك كل أساس عملي في الحياة من غير أن يرسم للحياة طريقا جديدا. ذلك على العكس من الطغرائي فإنه عاش مع المرأة واندفع في غمرات الحياة وشرب من أفاويقها حلوة ومرة، فكان من صميم أهل الدنيا. فإذا لازم أبا العلاء شئ من هدوء الطبع ظهر أثره في شعره فذلك طبيعي بمقتضى النشأة والاتجاه الفكري. أما أن يلازم الطغرائي ذلك الهدوء وتحكمه تلك الطمأنينة، وهو بعد مغمور في الحياة محب لها، هائم بمباهجها، لماح لما فيها من مغريات ومفاتن، فذلك سر من العظمة لا تألفه في الشعراء.
ولقد يظهر أثر هذا السر في مرئياته، وهي أبعد الأشياء عن أن يلزم فيها شاعر هدوء نفسه وطبعه، فلا يغلب عليه خيال جماح إلى غايات من الشعر يسبح من خلالها الشاعر في عالم من الخيال البعيد المعلق بآفاق الوهم القصية.
وله في إرثاء مقطوعة رثى بها عزيزة عليه، تلمح من خلالها مقدار ما لاقى في فراقها من لوعة عميقة الأثر بالغة الخطر، ولكنك تلمح فيها أيضا ذلك الهدوء النفسي الذي يبلغ من قرارة نفسك مبلغا لا تبلغه ثورة الشعر:
ولم أنسها والموت يقبض كفها * ويبسطها والعين ترنو وتطرق وقد دمعت أجفانها فوق خدها * جنى نرجس فيه الندى يترقرق وحل من المقدور ما كنت أتقي * وحم من المحذور ما كنت أفرق وقيل فراق لا تلاقي بعده * ولا زاد إلا حسرة وتحرق فلو أن نفسا قبل محتوم يومها * قضت حسرات كانت الروح تزهق هلال ثوى من قبل أن تم نوره * وغصن ذوي فينانه وهو مورق فوا عجبا أني أحم اجتماعنا * ويا حسرتي من أين حل التفرق أحن إليها إن تراخى مزارها * وأبكي عليها إن تدانى وأشهق وأبلس حتى ما أبين كأنما * تدور بي الأرض الفضاء وأصعق وألصقها طورا بصدري فاشتفي * وأمسحها حينا بكفي فتعبق وما زرتها إلا توهمت أنها * بثوبي من وجدي بها تتعلق وأحسبها والحجب بيني وبينها * تعي من وراء الترب قولي فتنطق وأشعر قلبي الياس عنها تصبرا * فيرجع مرتابا به لا يصدق هذا شعر صادق الدلالة على الحقائق التي أحاطت بالشاعر، وعلى الاحساسات التي اختلجت بها نفسه. قد تكون فيه لمحات من شعر الرثاء في شعر غيره من الشعراء، ولكن فيه إلى جانب هذا سر جديد عليك. ذلك ما تدرك من هدوء هذه النفس الثائرة كأنما ترى أرضا انبسطت ونما فوقها العشب وغشتها الأزاهير، وأنت تسمع من تحتها دوي البراكين وهمهمة الزلازل تغلي في باطنها.
ولقد حاولت أن أطلق على هذه الظاهرة العجيبة في شعر الطغرائي اسما أميزها به، فلم أجد اسما أطلقه عليها أجدر بها من أن ندعوها الواقعية الشعرية فإنها والحق يقال أقرب الأشياء فهما مما ندعوه الواقعية في الفلسفة على أن المقارنة بين واقعية الشعر وواقعية الفلسفة يحتاج إلى فراع ليس هذا مكانه، أما إذا أردت أن تقف على طرف مما ذكرت فاقرأ له المقطوعة الآتية:
أقول لنضوي وهو من شجني خلو * حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي * بأنك مما تشتكي كبدي خلو تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي * وما يستوي الريف العراقي والبدو هناك نسيم الريح مثلك لاغب * ومثلي ماء المزن مورده صفو ومحجوبة لو هبت الريح أرفلت * إليها الغيارى بالعوالي ولم يلووا صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى * فحتى م أصبو نحو من لا له نحو هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النوى * وشجو قديم ليس يشبهه شجو فأسر ولا فك، ووجد ولا أسى * وسقم ولا برء، وسكر ولا صحو عناء معنى وهو عندي راحة * وسم زعاف طعمه في فمي حلو ولولا الهوى ما شاقني لمح بارق * ولا هدني شجو ولا هزني شدو إن في هذا الشعر لثورة يخيم عليها هدوء نفسي قلما تأنسه في شاعر غيره.
وعندي أن هذه الصفة لم تتجل في شعر الطغرائي بقدر ما تجلت في لاميته المعروفة، وإن لنا لعودة إليها نحلل فيها هذا الشاعر الكبير على ضوء هذه الحقيقة الملموسة في شعره. ولقد يحفزنا إلى درس الطغرائي أنه شاعر فسيح الجوانب مديد الغايات وفي شعره تعلق بأسباب الأدب العالي، وما أحوجنا إلى هذه الأسباب.
الشريف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي قال أبو الفداء في تاريخه وهو يتحدث عن حوادث سنة 739:
فيها في أوائل رجب توفي بمعرة النعمان ابن شيخنا العابد إبراهيم ابن عيسى...
وبعد أن يصفه بأوصاف كثيرة يقول: وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي نفعنا الله ببركتهما، وكان داعيا إلى السنة بتلك البلاد وتوفي بعده بأيام الشريف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي بالفوعة وكان داعيا إلى التشيع بتلك البلاد، قلت:
وقام بنصر مذهبه عظيما * وحدد ظفره وأطال نابه تبارك من أراح الدين منه * وخلص منه أعراض الصحابة السيد حسين بن السيد رضي بن السيد مقتدى الحسيني القزويني الملقب بمعين الاسلام والمشهور باللامع.
ولد في قزوين ليلة الجمعة 20 جمادى الأولى سنة 1316 وتوفي بها سنة