غنى الحياة، شخصوا الحياة كحقيقة، لكنهم بالعقل والاحساس شخصوا الموت كحقيقة الحقائق.
وقد استخلص الأنبياء من الموت تصورات عظيمة عن الحياة والبعث، وأعطوا لوائح خالدة في الوعظ والتربية ورسم صور مثالية للسلوك الإنساني، للفرد والجماعة.
ولم يهرب الشعراء من حقيقة الحقائق: الموت، بل واجهوه بمستويات مختلفة من النظر والرؤية.
على أن حكمة الموت الأساسية هي: ما دام الموت حتما محتوما، وقدرا ثابتا، إذن على المرء أن يكون حقيقيا مع نفسه ومع سواه. وعليه أن يحسم تناقضه الداخلي باتجاه التحرر من أي نفاق فكري وسياسي واجتماعي، لأنه لا يعلم متى يحين أجله.
فالموت يدعو إلى التطابق مع النفس، ويدعو إلى الشجاعة أمام ما هو دون الموت. بمعنى آخر أن الموت هذا السيد المطاع الذي لا يدع مجالا لأي انسان للركوع أمام سلطان آخر دونه.
وقد أمد الموت الشعراء بأصناف رفيعة من الحكمة، لأنهم وهم يفتحون عيونهم عليه كانوا يرون التفاهات الدنيوية الصغيرة، ويقفون عندها باستهانة مثلما وقف الخليفة بأصحابه يوما على مزبلة... فأطال الوقوف حتى أضجرهم فقالوا: ما لك حبستنا هنا فقال: هذه دنياكم التي تتنافسون عليها.
وإن كل الممارسات والأساليب التي يلجأ إليها الإنسان في تهالكه على السلطة والمال والمطامع الدنيوية، من قتل، وغدر، ونفاق، ووشاية، وتشويه، وإذلال، وكذب، تبدو إزاء حقيقة الموت الحاتمة مجرد نذالات صغيرة، تدمغ صاحبها بالتفاهة والخسران المبين.
ولقد رأى الشاعر العربي القديم حكمة الموت في بطلان النعيم الباطل لأنه زائل لا محالة، وليس البقاء إلا لوجه الله تعالى.
فقال لبيد بن ربيعة في البقاء الإلهي:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل والموت أصلا يدفع الإنسان إلى تعزيز اتجاهاته الأصيلة، وسماته الحقيقة، في التمسك بالحق، فقال زهير بن أبي سلمى:
بدا لي أن الله حق فزادني * إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا ومثلما رأى الشعراء بقاء الله وأزليته، فقد رأوا أيضا بقاء البلاد بجبالها ووديانها وأنهارها، بأرضها وبسمائها، فادخلوا الحس الوطني في شعرهم، من خلال حكمة الموت ودلالته في الفناء والبقاء.
وفي ذلك قال زهير بن أبي سلمى:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وألا السماء والبلاد وربنا * وأيامنا معدودة واللياليا وأضاف الشعراء إلى البقاء الآلهي الأزلي، وبقاء البلاد، وقيمة العمل الصالح منطلقا نظريا ودليل عمل وسلوك لدى الشعراء المؤمنين بوجود الله تعالى.
وأغنت الثقافة الاسلامية تصورات الشعراء، وخاصة في مجال الأفكار الأساسية التي شرحت البعث والحساب، والبدء والمعاد. فتطورات تصورات الشعر العربي القديم بعد نشوء الاسلام، وأصبحت الآيات القرآنية ملهما أساسيا في التأكيد على الدلالات الروحية والأخلاقية في البعث والنشور وأصبحت للعمل الصالح أهمية استثنائية مرموقة في تحديد هوية المسلم المؤمن.
ومن الآيات البينات التي تذكر الإنسان بالمعاد:
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون.
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين.
كل من عليها فان.
إنه هو يبدئ ويعيد.
وأصبحت هداية الشعراء متمثلة بمعرفة حكمة الموت، فيقول أبو نواس:
الموت ضيف فاستعد له * قبل النزول بأفضل العدد واعمل لدار أنت جاعلها * دار المقامة آخر الأمد يا نفس موردك الصراط غدا * فتأهبي من قبل أن تردي وقال:
إن للموت لسهما * واقعا دونك أو بك فعلى الله توكل * وبتقواه تمسك وحيث إن الشريف الرضي عالم ضليع في الديانة الاسلامية و الروحانيات، جمع العلم الوهبي بالعلم الكسبي، فقد كانت له من المفاهيم الاسلامية عدة كبيرة لتقويم شعره بأفكار ثرية بالحكمة والمعرفة والموعظة والسداد. وكانت للشاعر المتنبي تأثيراته الواضحة في بداية التجربة الشعرية للشريف الرضي، سواء أكان ذلك في أغراض الشعر، أو في تركيبه.
وقد كان للمتنبي مع الموت حوار نابه، صارخ، غني بالتصورات والمفاهيم الراسخة.
وكان وصف المتنبي للموت مزيجا من الذكاء والطرافة في التشبيه. فهو يقول:
وما الموت إلا سارق دق شخصه * يصول بلا كف ويسعى بلا رجل ويشير المتنبي إلى أن الموت معروف الطباع بالصفات، لا بالتجربة الشخصية، لأن ليس هناك من آب بعد موت، حتى يشرح ما لاقى وما رأى، فيقول:
فالموت تعرف بالصفات طباعه * لم تلق خلقا ذاق موتا آئبا