أبا حسن لي في الرجال فراسة * تعودت منها أن تقول فتصدقا وقد خبرتني عنك أنك ماجد * سترقى من العلياء أبعد مرتقى فوفيتك التعظيم قبل أوانه * وقلت أطال الله للسيد البقاء وأضمرت منه لفظ لم أبح بها * إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا فان عشت أو إن مت فاذكر بشارتي * وأوجب بها حقا عليك محققا وكن لي في الأولاد والأهل حافظا * إذا ما اطمأن الجنب في موضع النقا وكان جواب الشريف الرضي:
سننت لهذا الرمح غربا مذلقا * وأجريت في ذا الهندواني رونقا وسومت ذا الطرف الجواد وإنما * شرعت له نهجا فخب وأعنقا فليس بساق قبل ربعك مربعا * وليس براق قبل جرك مرتقى وإن صدقت منه الليالي مخيلة * تكن بجديد الماء أول من سقى إلى أن يقول:
فان راشني دهري أكن لك بازيا * يسرك محصورا ويرضيك مطلقا أشاطرك العز الذي أستفيده * بصفقة راض إن غنيت وأملقا فتذهب بالشطر الذي كله غنى * وأذهب بالشطر الذي كله شقا وتأخذ منه ما أنام وما حلا * وآخذ منه ما أمر وأرقا...
الخ.
إن الحقيقة الماثلة في بشارة الصابي تشير إلى ما هو أبعد من حق الشريف الرضي، من حيث الجدارة والتأهيل للخلافة الاسلامية، أي أنها تشير إلى حق الشريف الرضي الموروث، والثابت، إضافة إلى الأهلية والجدارة.
بكلمة أخرى أن الصابي وهو شيخ الكتاب، والشاعر المعروف، كان يؤمن بحق أسرة الشريف الرضي، أبا عن جد في الخلافة، وإن هذا الايمان يمتد في حياة الصابي، وفي تاريخ علاقته بوالد الشريف الرضي، السيد الموسوي، بجذور قديمة.
فالبشارة لم تكن وليدة التفرس، كما يرى البعض، بل كانت وليدة الايمان بالحق الموروث سواء أكان الرضي طفلا في عمره أو مراهقا، أو في ما بعد العقد الثاني من العمر.
إن تعليل البشارة بالايمان بحق الشريف الرضي في الخلافة، حتى قبل أن يكون الرضي نفسه شخصا مرموقا، أكثر دقة من تعليل البشارة بالفراسة، وبخاصة من قبل شخص صابئي لا تشغله أمور الخلافة الاسلامية، كثيرا.
ويتصل ذلك بقضية أخرى ذات أهمية، وهي أن كرامات الأبرار من أهل البيت، كثيرا ما فعلت الأعاجيب في تغيير أفكار وعواطف أناس غير مسلمين، بعد الاحتكاك بهم، والاطلاع على صفاتهم الشريفة، فانتقلوا إلى حظيرة الاسلام بسبب التأثر بالقدوة الصالحة. وأصبح انتماؤهم الاسلامي ضربا من الايمان الكبير بامامة الأئمة الأبرار والولاء لهم.
ومع أن الدكتور زكي مبارك يرجع بالعلاقة إلى بدايتها، وهي صداقة الصابي لأبي أحمد الموسوي والد الشريف، وقبل أن يولد الشريف بأكثر من أربع سنوات، إلا أنه لم يعرض العمق الروحي للعلاقة. فظهرت وكأنها صداقة قوية، أثرت على عواطف الشريف الرضي وتعززت أكثر بسبب اعتقال الصابي مثلما اعتقل والده من قبله أيضا.
فالصداقة والمأساة المشتركة والرابطة الأدبية هي جملة العوامل التي وقف عندها د. زكي مبارك في تفسير الرابطة بين الصابي والرضي. إلا أن هذه العوامل ليست قوية التأثير إلى الدرجة التي يندفع فيها شيخ صابئي مهم الشخصية، حاد الموهبة، إلى الانحياز التام إلى الشريف الرضي، والدعوة إلى حقه في الخلافة الاسلامية مع صعوبة هذه الدعوة بالنسبة إلى الصابئي في وسط إسلامي يمور بالصراعات المذهبية.
وفي الحق، أن دعوة الصابي إلى خلافة الشريف كان يمكن أن تكون عبئا على الرضي نفسه بسبب مكانته الخاصة بين المسلمين، وحساسية موقفه ودعوته إلى الخلافة، كما أنها كانت عبئا على الصابئ الذي كان يمكن أن يكتفي بابداء الود والمحبة، دون المجاهرة بحق الشريف الرضي في الخلافة الاسلامية، ذلك الحق الذي كان يناصبه العداء، الخليفة والسلطة وأناس آخرون. غير أن الايمان إلى درجة الولاء هو الذي قاد الصابي إلى المجاهرة، وهو الذي أفاض أعماق الشريف الرضي بالعرفان والحب الشديد لأبي إسحاق الصابئي، دون حذر أو تحسب.
وكانت قصيدة الشريف الرضي في رثاء أبي إسحاق الصابي من روائع المراثي المشحونة بالمغازي:
أعلمت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي جبل هوى لو خر في البحر اغتدى * من وقعه متتابع الأزباد ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى * أن الثرى يعلو على الأطواد بعدا ليومك في الزمان فإنه * أقذى العيون وفت في الأعضاد لا ينفد الدمع الذي يبكى به * إن القلوب له من الامداد كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت * تلك الفجاج وظل ذاك الهادي طاحت بتلك المكرمات طوائح * وعدت على ذاك الجواد عوادي قالوا أطاع وقيد في شطن الردى * أيدي المنون ملكت أي قياد من مصعب لو لم يقده إلهه * بقضائه ما كان بالمنقاد ويقول:
أعزز علي بان يفارق ناظري * لمعان ذاك الكوكب الوقاد أعزز علي بان نزلت بمنزل * متشابه الأمجاد والأوغاد ويقول:
عمري لقد أغمدت منك مهندا * في الترب كان ممزق الأغماد قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى * لكن أراد الله غير مرادي ولقد كبا طرف الرقاد بناظري * أسفا عليك فلا لعا لرقاد ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا * أنى ومثلك معوز الميلاد إن الدموع عليك غير بخيلة * والقلب بالسلوان غير جواد سودت ما بين الفضاء وناظري * وغسلت من عيني كل سوادي ري الخدود من المدامع شاهد * أن القلوب من الغليل صواد ما كنت أخشى أن تضن بلفظة * لتقوم بعدك في مقام الزاد ما ذا الذي منع الفنيق هديره * من بعد صولته على الأذواد ما ذا الذي فجع الجواد على المدى * من بعد سبقته إلى الآماد