ما ذا الذي فجع الهمام بوثبة * وعدا على دمه وكان العادي قل للنوائب عددي أيامه * يغني عن التعديد بالتعداد حمال ألوية العلاء بنجدة * كالسيف يغني عن مناط نجاد لقضى لسانك مذ ذوت ثمراته * أن لا دوام لنضرة الأعواد وقضى جنانك مذ قضت وقداته * أن لا بقاء لقدح كل زناد بقيت أعيجاز يضل تبيعها * ومضت هواد للرجال هواد يا ليت أني ما اقتنيتك صاحبا * كم قنية جلبت أسى لفؤادي برد القلوب لمن تحب بقاءه * مما يجر حرارة الأكباد ليس الفجائع بالذخائر مثلها * بأماجد الأعيان والأفراد ويقول من لم يدر كنهك أنهم * نقصوا به عددا من الأعداد هيهات أدرج بين برديك الردى * رجل الرجال وأوحد الآحاد لا تطلبي يا نفس خلا بعده * فلمثله أعيا على المرتاد فقدت ملاءمة الشكول بفقده * وبقيت بين تباين الأضداد ما مطعم الدنيا بحلو بعده * أبدا ولا ماء الحيا ببراد الفضل ناسب بيننا إن لم يكن * شرفي مناسبه ولا ميلادي إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي * فلأنت أعلقهم يدا بودادي لو لم يكن عالي الأصول فقد وفى * شرف الجدود بسؤدد الأجداد لا در دري إن مطلتك ذمة * في باطن متغيب أو باد إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن * حيا إذن ما كنت بالمزداد ليس التنافث بيننا بمعاود * أبدا وليس زماننا بمعاد ضاقت علي الأرض بعدك كلها * وتركت أضيقها علي بلادي لك في الحشا قبر وإن لم تأوه * ومن الدموع روائح وغواد سلوا من الإبراد جسمك وانثنى * جسمي يسل عليك في الإبراد كم من طويل العمر بعد وفاته * بالذكر يصحب حاضرا أو بادي ما مات من جعل الزمان لسانه * يتلو مناقب عودا وبوادي فاذهب كما ذهب الربيع واثره * باق بكل خمايل ونجاد لا تبعدن وأين قربك بعدها * إن المنايا غاية الأبعاد صفح الثرى عن حر وجهك إنه * مغرى بطي محاسن الأمجاد وتماسكت تلك البنان فطالما * عبث البلى بأنامل الأجواد وسقاك فضلك أنه أروى حيا * من رائح متعرس أو غاد جدث على أن لا نبات بأرضه * وقفت عليه مطالب الرواد في هذه القصيدة يتفرد الشريف الرضي في طبيعته النجيبة العالية، فهو يوجه أصدق الرثاء وهو ما تطفح به القصيدة إلى أبي إسحاق الصابي، رغم المكانة الاسلامية المرموقة للشاعر الرضي، والتي تجعله في موضع النقد واللوم، وبالأخص من قبل الغرماء والحاقدين وحاسدي الشريف الرضي على مكانه وسمعته.
ولم تكن الرثائية على هذا المستوى من التأسي والتفطر ألما وحسرة، لو لم تكن لأبي إسحاق في نفس الشاعر الرضي مكانة خاصة، هي مكانة المريد، والموالي، والمخلص، والداعية الذي لم تقعده ديانته المعروف بها، وظروفه المحرجة عن الافصاح عن دعوته والجهر بها، والعمل على إذاعتها.
وظل الشريف الرضي يذكر ولاء أبي إسحاق الصابي لأسرته وله، فظل يوافيه بالشعر الرثائي، كلما رأى قبره، معبرا بذلك عن أصالة الطبع، وعلو النفس التي كانت فوارة بالآمال والأماني. وثمة ما يضاف إلى الأصالة والنجابة في طبيعة الشريف الرضي وهو يرثي أبا إسحاق الصابي، وهو صفته القيادية غير الملموسة في رثائياته، ولكنها مستشفة من خلال رعايته لأشخاص معينين، لم يذكر أسماء بعضهم، وهي رعاية القائد للجندي، وتعاطفه معه، وحدبه عليه، وترحمه على ذكره.
وقد أصاب الصابي من رثاء الشريف الرضي من صدق الوجد ما يحمل أكثر من دلالة على قوة الآصرة ومضمون الروحي والسياسي.
وبعد أعوام من موت الصابي، مر الرضي على قبره، فقال:
أيعلم قبر بالجنينة أننا * أقمنا به ننعي الندى والمعاليا مررنا به فاستشرفتنا رسومه * كما استشرف الروض الظباء الجوازيا وما لاح ذاك الترب حتى تحلبت * من الدمع أو شال ملأن الأماقيا نزلنا إليه عن ظهور جيادنا * نكفكف بالأيدي الدموع الجواريا ولما تجاهشنا البكاء ولم نطق * عن الوجد إقلاعا عذرنا البواكيا أقول لركب رائحين تعرجوا * أريكم به فرعا من المجد ذاويا ألموا عليه عاقرين فإننا * إذا لم نجد عقرا عقرنا القوافيا ولو أنصفوا شقوا عليه ضمائرا * وجزوا رقابا بالظبا لا نواصيا وقفنا فأرخصنا الدموع وربما * تكون على سوم الغرام غواليا ألا أيها القبر الذي ضم لحده * قضيبا على هام النوائب ماضيا هل ابن هلال منذ أودى كعهدنا * هلالا على ضوء المطالع باقيا وتلك البنان المورقات من الندى * نواضب ماء أم بواق كما هيا وما كنت آبي طول لبث بقبره * لو اني إذا استعديته كان عاديا وأضاف:
خلا بعدك الوادي الذي كنت أنسه * وأصبح تعروه النوائب واديا أراحت علينا ثلة الوجد ترتعي * ضمائرنا أيامها واللياليا رضيت بحكم الدهر فيك ضرورة * ومن ذا الذي يغدو بما ساء راضيا وطاوعت من رام انتزاعك من يدي * ولو أجد الأعوان أصبحت عاصيا وطامنت كيما يعبر الخطب جانبي * فالقى على ظهري وجر زماميا رثيتك كي أسلوك فازددت لوعة * لأن المراثي لا تسد المرازيا وأعلم أن ليس البكاء بنافع * عليك ولكني أمني الأمانيا وترد المعاني الوافرة للحب والتقدير، وهي ترعى للصابي مجدا، لم يكن مقصودا، لو لم يكن للصابي من أكثر الدعاة تحمسا لحق الشريف الرضي في الخلافة.
وبعد موت الصابي بنحو تسع سنين مر الشريف الرضي على قبره فقال:
لولا يذم الركب عندك موقفي * حييت قبرك يا أبا إسحاق كيف اشتياقك مذ نأيت إلى أخ * قلق الضمير إليك بالأشواق هل تذكر الزمن الأنيق وعيشنا * يحلو على متأمل ومذاق وليالي الصبوات وهي قصائر * خطف الوميض بعارض مبراق لا بد للقرناء أن يتزايلوا * يوما بغدر قلى وعذر فراق أمضي وتعطفني إليك نوازع * بتنفس كتنفس العشاق وأذود عن عيني الدموع ولو خلت * لجرت عليك بوابل غيداق ولو أن في طرفي قذاة من ثرى * وأراك ما قذيتها من ماقي