أحصل من عزمي على التمني * وليتني أفعل أو لو أني راض بما يضوي الفتى ويضني * أسس آبائي وسوف أبني قد عز أصلي ويعز غصني * غنيت بالجود ولم أستغن إن الغنى مجلبة للضن * وللقعود والرضا بالوهن الفقر ينئي والتراء يدني * والحرص يشقي والقنوع يغني إن كنت غير قارح فاني * أبذ جري القارح المسن تشهد لي أن الزمان قرني * سوف ترى غبارها كالدجن ويواصل:
من قبل أن يغلق يوما رهني * متى تراني والجواد خدني والنصل عيني والسنان أذني * وأمي الدرع ولم تلدني وكان وهو يرنو إلى المعالي، يعلم جيدا وعورة الطريق وكثرة الأعداء وقلة الناصرين، لكنه هتف في داخله الهاتف فأصغى إليه، فقال وهو في السادسة عشرة:
أمن شوق تعانقني الأماني * وعن ود يخادعني زماني وما أهوى مصافحة الغواني * إذا اشتغلت بناني بالعنان عدمت الدهر كيف يصون وجها * يعرض للضراب وللطعان ويقول:
نشرت على الزمان وشاح عز * ترنح دونه المقل الرواني سأطلع من ثنايا الدهر عزما * يسيل بهمة الحرب العوان ولا أنسى المسير إلى المعالي * ولو نسيته أخفاف الحواني وكنا لا يروعنا زمان * بما يعدي البعاد على التداني وليس هناك اغتراب سياسي، مثل اغتراب الشريف الرضي في نضاله من أجل تحقيق غايته وتنفيذ رسالته، فقد كانت بمواجهته ظروف قاسية، وشروط سياسية أقسى.
وتطلب هدفه السامي منه إبداء المرونة في علاقاته مع الخلفاء والملوك والوزراء، بالقدر الذي رآه مجديا لتمشية أمور المسلمين، وتحقيق غايات محددة، ترتبط بغايته الكبرى التي أنشد لها ودعا إليها بلا توقف.
لكن مرونته تلك سرعان ما تتحول إلى غضب عات، عند حصول أي استفزاز صغير أو تعريض به، أو بواحد من أهله، أو عند حصول أي إهمال أو تجاوز أو تطاول عليه من أي سلطان كان.
وعند ما يغضب، يدع المرونة جانبا، ويعلو صوت حماسته وهو يذكر أصله ومعدنه الكريمين، فينتفض كملك، أو كخليفة، ويكتسب التحدي في شعره طعم التقريع، تقريع الخليفة الذي يخاطبه، دونما خشية منه.
وفي تلك الفرص النادرة التي يغضبه الخليفة تبرز روح الشريف الرضي، الغنية بكل معاني السيادة العربية، والحق، والكبرياء التي لا تنحني أمام السلطان مهما كانت قوة سطوته وشدة بطشه.
ورغم أن الخليفة الطائع لله كانت بينه وبين الرضي مودة، إلا أن إثارته له عند ما قرب بعض أعدائه إليه، جعلته يزمجر غيظا في قصيدة، مطلعها:
ونمي إلى من العجائب أنه * لعبت بعقلك حيلة الخوان وتملكتك خديعة من قولة * غرارة الأقسام والأيمان حقا سمعت ورب عيني ناظر * يقظ تقوم مقامها الأذنان أين الذي أضمرته من بغضه * وعقدته بالسر والاعلان أم أين ذاك الرأي في إبعاده * حنقا وأين حمية الغضبان سبحان خالق كل شئ معجب * ما فيكم من كثرة الألوان يوم لذا وغد لذاك وهذه * شيم مقطعة قوى الأقران فالآن منك الياس ينقع غلتي * واليأس يقطع غلة الظمآن ثم يبلغ في نقده الذروة فيصيح:
لي مثل ملكك لو أطعت تقنعي * وذوو العمائم من ذوي التيجان ولعل حالي أن يصير إلى على * فالدوح منبتها من القضبان فاحذر عواقب ما جنيت فربما * رمت الجناية عرض قلب الجاني أعطيتك الرأي الصريح وغيره * تنساب رغوته بغير بيان وعرضت نصحي والقبول إجازة * فإذا أبيت لويت عنك عناني ولقد يطول عليك أن أصغي إلى * ذكراك أو يثني عليك لساني ويعد افتخاره بنفسه وهو يمدح الخليفة القادر بالله خير بيان عن اغترابه السياسي من موقع المجد، فقد ختم قصيدته التي كان مطلعها:
لمن الحدوج تهزهن الأينق * والركب يطفو في السراب ويغرق بثلاثة أبيات تلخص عظمة نفس الشاعر الرضي وشاعريته المجيدة، وهي:
عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق وتوضح العلاقة بين الشاعر الشريف الرضي وأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب والشاعر عن مدى تمكن هدف الخلافة من نفس الشاعر الرضي، ومن نفوس المريدين والموالين والأنصار.
فالخلافة لم تكن مجرد رغبة، أو نزوة، أو حلم عابر لشاعر ذي صبوات ورغبات وآمال، بل كانت دعوة علنية وسرية، شغلت اهتمام الشاعر طوال حياته، وشغلت العديد من الأتباع والمؤيدين.
وكان تأييد أبي إسحاق الصابي، لخلافة الشريف الرضي، رغم التباين في الديانة، دليلا على رسوخ حق الشريف الرضي في الخلافة واقتناع بعض الناس بهذا الحق، لا سيما المرموقين منهم.
ولم يكن إعجاب الشريف الرضي بأبي إسحاق الصابي، ناجما عن تجاوب عاطفي لدعوة الصابي إلى حقه في الخلافة، بل هو إعجاب متصل بروح الدعوة، وبمراحل انطلاقها، وتطورها، واستمرارها، وتغلغلها في نفوس الأنصار.
ويتجاهل النقاد والمحللون حقيقة قوية وهي أن الصابي لم يتوسم الخلافة في الشريف الرضي وهو في العمر المناسب، بل في مرحلة مبكرة من العمر، هي بداية العقد الثاني من عمر الرضي وكان الصابي في أواخر الثمانين من عمره، بما في ذلك من دلالات، فخاطبه حينذاك قائلا: