إن العفة رفعت الشريف الرضي الزاهد إلى مكانة الرجل المحرم لا في مناسبات الحرام وحدها، بل في جميع عشقياته التي سبح فيها للجمال مستنبطا منه الأزلية الإلهية وأناشيد الشوق الكونية، وكيف لا وهو القائل:
أنا مولى لشهوتي * وسواي عبد لها ويلعب الرقيب الأخلاقي، الذي لم يكن إلا ضمير الشريف الرضي، دورا حاسما في تقرير شكل العلاقة المتبادلة مع المحبوب. والتي تحتويها أصلا وابتداء روحية جمالية مفرطة التنافث.
كان الشريف الرضي، بدافع رقيبه الداخلي يتعفف، وكان بدافع عين الرقيب الخارجي المتلصص، يختار التجنب والصدود، رغم اللوعة، فكان يقول:
ألا أيها الركب اليمانون عهدكم * على ما أرى بالأبرقين قريب وإن غزالا جزتم بكناسه علي الناي عندي والمطال حبيب ولما التقينا دل قلبي على الجوى * دليلان حسن في العيون وطيب ولي نظرة لا تملك العين أختها * مخافة يثنوها علي رقيب وهل ينفعني اليوم دعوى براءة * لقلبي ولحظي يا أميم مريب وما يراه جمهور الوشاة، والمنافقين، والصغار، من معايب في الكبار السامقين، المعاميد في العشق والحكمة والحياة، يتضخم، لأن الشخص الكبير بعقله، وشجاعته، وكرمه، حيث يكون مرموقا، فإنه يكون محط افتراء المفترين وتشويه المشوهين، فيكثر الاختلاق، وتتناوشه سهام المتعرض، فيلجأ الشاعر إلى سلاحه، وهو القصيدة، فيوجه الهجو إلى من ينتقص منه، أما السياسي فيلجأ إلى سلاح الحكمة، وتختلف الأسلحة عند الشعراء، والسياسيين، والحكماء، والفرسان، غير أنها تتنوع وتتلازم عند الشريف الرضي، لأنه الشاعر، والسياسي، والحكيم، والفارس، فقال حكيما:
نزل المسيل وبات يشكو سيله * إلا علوت فبت غير مراقب جمع المثالب ثم جاء تعرضا * بالمخزيات يدق باب الثالب وإذا اجتمعت على معايب جمة * فتنح جهدك عن طريق العايب أو يكيل الصاع صاعين بالحكمة نفسها، ومن مقامه الرفيع قائلا:
وإن مقام مثلي في الأعادي * مقام البدر تنبحه الكلاب رموني بالعيوب ملفقات * وقد علموا باني لا أعاب وأني لا تدنسني المخازي * وأني لا يروعني السباب ولما لم يلاقوا في عيبا * كسوني من عيوبهم وعابوا وكذلك:
وجاهل نال من عرضي بلا سبب * أمسكت عنه بلا عي ولا حصر حمته عني المخازي أن أعاقبه * كذاك تحمى لحوم الذود بالدبر وكان إذا انفعل فيه روح الشاعر شديد الهجاء، قوي التعرض، يهجم هجمة الفارس، الأنوف، المتعالي على الأردياء، كقوله:
لعل الدهر أمضى منك غربا * وأقوى في الأمور يدا وقلبا ومقلته إذا لحظت حسامي * تغض مهابة وتفيض رعبا فكيف وأنت أعمى عن مقالي * ولو عاينته لرأيت شهبا عذرتك أنت أردى الناس أصلا * وأخبث منصبا وأذل جنبا وأنت أقل في عيني من أن * أروعك أو أشن عليك حربا أأعجب من خصامك لي وجدي * رسول الله يوسع منك سبا ومن رجم السماء فلا عجيب * يقال حثا بوجه البدر تربا فإنك إن هجوت ليثا * وإني هجوت هجوت كلبا السيرافيان وقال الشيخ محمد رضا الجعفري معلقا على بعض ما نشر عن الشريف الرضي: من هو ابن السيرافي هذا؟
والسيرافيان اللذان عاصرهما الشريف، هما:
الأب: الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي، ثم البغدادي، المعتزلي، الحنفي 284 897 368 979 أحد أعلام العلم والأدب واللغة.
كان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد فاسلم وسماه أبو سعيد عبد الله. ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها نشأ، ثم هاجر إلى بغداد فسكنها حتى توفي عن أربع وثمانين سنة، كان يدرس كما قال عنه المترجمون له القرآن، وعلومه، والقراءات، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض والكلام، والشعر، والعروض، والحساب، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، معتزلي العقيدة، حنفي المذهب، ولي قضاء بغداد وكان نزيها، عفيفا، جميل الأمر، حسن الأخلاق، لم يأكل إلا من كسب يده، ينسخ ويأكل منه، حتى أيام قضائه، وله كتب كثيرة في القراءات، والنحو، وغيرها (1).
والابن: يوسف بن الحسن، أبو محمد، بن السيرافي، البغدادي 330 941 385 995 وكان عالما بالنحو، والأدب، واللغة، أخذ عن والده، فخلفه في جميع علومه، وتصدر مجلسه بعد موته، وأكمل كتبه التي مات ولم يكملها، وألف كتبا عدة، وكان يرجع إلى علم ودين، رأسا في العربية (2).
فأيهما الذي حضر عليه الشريف؟
يقول الدكتور الحلو أنه الأب، أبو سعيد نفسه، لا ابنه أبو محمد، ابن السيرافي (3) ثم يتناوله بتفصيل أكثر فيقول:
ويرى الدكتور إحسان عباس أنه: ربما كان من الوهم أن نعد أبا سعيد السيرافي واحدا من أساتذة الرضي... لأن السيرافي أبا سعيد توفي وعمر الرضي يقل عن ثمان سنوات... وابن السيرافي المشار إليه فيما أعتقد هو: ابن أبي سعيد يوسف وقد توفي... ورثاه الرضي... وقد خلف يوسف أباه في علومه (4) وقد رد الأستاذ محمد عبد الغني حسن هذا الرأي،