أروم انتصافي من رجال أباعد * ونفسي أعدى لي من الناس أجمعا إذا لم تكن نفس الفتى من صديقه * فلا يحدثن في خلة الدهر مطمعا ولا ينخدع الشريف الرضي بما يصيب النفس من حالات صفاء مؤقتة، لأن نظراته كانت ترتد إلى أغوار النفس البعيدة، مدركا صلتها بالزمن وبالموت.
فعلى هاتين الصلتين انبنت أفكاره عن النفس. وهو يختلف في نظرته إلى الزمن عن نظرة أبي العلاء المعري، فقد كان المعري ذا نظرة وجودية، وعقلية، مشتركة، لا تلقي بالاتهام على الزمن، وإنما على البشر الذين حق على الزمان أن يشكوهم لو استطاع تكلما.
قال المعري:
نبكي ونضحك والقضاء مسلط * ما الدهر أضحكنا ولا أبكانا نشكو الزمان وما أتى بجناية * ولو استطاع تكلما لشكانا وتنطلق نظرات المعري الوجودية والعقلية من إيمانه بقضاء الله الذي لا راد له، وبقدره، فهو يقول:
قضى الله فينا بالذي هو كائن * فتم وضاعت حكمة الحكماء وهل يأبق الإنسان من ملك ربه * فيخرج من أرض له وسماء ويقول:
رددت إلى مليك الحق أمري * فلم أسال متى يقع الكسوف لكم سلم الجهول من المنايا * وعوجل بالحمام الفيلسوف أما الشريف الرضي فقد كان يرى في الزمن خصما لدودا...
لأنه الزمن الذي آل إلى فجيعة أهل البيت وشهد دماءهم المتناثرة على أرض كرب وبلاء، وهو الزمن الذي شهد سجن ونفي أبيه، ومصادرة أملاكه، وهو الزمن الذي يسوس فيه الأمور العلوج والسفهاء، فيما يتعرض فيه أهل الرئاسة الحقيقية إلى المحن والمصائد.
ورغم أن الزمن مزدوج تارة، كما يقول:
كل شئ من الزمان طريف * والليالي مغانم وحتوف إلا أن لعبة الزمن ثابتة:
عادة للزمان في كل يوم * يتناءى خل وتبكي طلول فالليالي عون عليك مع البين * كما ساعد الذوابل طول وهو في هذه اللعبة مغترب كبير مهدور الطموحات، كثير الشقاء، شديد التحسس بالماضي، بذهاب أقوام، وبحتمية ذهاب آخرين. وهو يرى الدهر وسط الاغتراب، فهو لم ينصره يوما ما، بل أحاطه بالخذلان، فقال:
فما لي طول الدهر أمشي كأنني * لفضلي في هذا الزمان غريب إذا قلت علقت كفي بصاحب * تعود عواد بيننا وخطوب ويقول:
يقولون نم في هدنة الدهر آمنا * فقلت ومن لي أن يهادنني الدهر هل الحرب إلا ما ترون نقيصة * من العمر أو عدم من المال أو عسر فلا صلح حتى لا يكون لواجد * ثراء ولا يبقى على وافر وفر ويستجيب الشاعر أحيانا إلى دعوة العقلاء الداعين إلى مسايرة الدنيا، ولكنه يرى أن الدنيا، مهما دخل في مداراتها، فإنها مخادعة، حتى في زخرفها العلني، ومتاعها اللذيذ، وهو يشدد على عدم الانخداع بها ف:
هيهات يا دنيا وبرقك صادق * أرجو فكيف إذا وبرقك كاذب ومهما أوتي من قوة لارغام نفسه على مسالمة تصاريف الزمان، فان النجاحات لم تكن بمستوى المأمول، بل دون ذلك بكثير.
وكثيرا ما حمل شعره ردا على نفسه، وهو في مونولوج الحوار الداخلي، وتذكير نفسه بضرورة توفر الناصر والمعين، فيما لا يجني من محاربة الزمان شيئا، لأنه في تلك المحاربة يبقى قليل الناصر، فيقول:
سالم تصاريف الزمان فمن يرم * حرب الزمان يعد قليل الناصر كذلك حمل شعره ردودا على الذين قالوا له بضرورة مماشاة الدهر، لخصها قوله:
يقولون ماش الدهر من حيث ما مشى * فكيف بماش يستقيم وأظلع وما واثق بالدهر إلا كراقد * على فضل ثوب الظل والظل يسرع وقالوا تعلل إنما العيش نومة * يقض ويمضي طارق الهم أجمع ولو كان نوما ساكنا لحمدته * ولكنه نوم مروع مفزع إن الوطيس الحامي بينه وبين الدهر، قد عززه سوء الحظ الذي حالفه، مثلما حالف ذوي الفضل الذين أزرت بهم الدنيا. ولم يستطع الشاعر أن يتوقف عن مهاجمة سوء الحظ ونكد الدنيا، محملا الدنيا، نفسها مسؤولية سوء الحظ الذي انتظمه الزمان له ولأسرته خرزة، خرزة، حتى صار تراثا مأساويا ضخما، قال الشاعر:
ومن عجب صدود الحظ عنا * إلى المتعممين على الخزايا أسف بمن يطير إلى المعالي * وطار بمن يسف إلى الدنايا ويرن سوء الحظ في شعر الشاعر كثيرا ف:
ما الذنب للمزن جازتني مواطره * وإنما الذنب للأرزاق والقسم لكنه يخلص دوما إلى النتيجة المعلومة، إلى عهر الدنيا وابتذالها، وانعدام العدالة فيها:
وخلائق الدنيا خلائق مومس * للمنع آونة وللاعطاء طورا تبادلك الصفاء وتارة * تلقاك تنكرها من البغضاء وتداول الأيام يبلينا كما * يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء وترتبط أفكار الشريف الرضي عن الزمن ومأساويته ارتباطا قويا بأفكاره عن الموت.
بل إن الشاعر المرهف الاحساس، والمبدع، والجمالي، يرى في الموت السبب الأول لاغترابه الروحي، وأنه يعمد إلى قهر هذا الاغتراب بالكفاح، والتمرد، والثورة، وصنع الأحداث، والحب، والاستغراق في تفاصيل الحياة السياسية والعاطفية، إلا أنه أي الاغتراب الروحي ثعبان النفس الذي يخرج من الظل مادا رأسه إلى الحياة، لكنه مشير إلى الموت. وليس غريبا على الشعراء أن يتحدثوا عن الموت، لأنهم باحساسهم المتدفق الذي خبروا فيه