بل إن محمدا الباقر ع يقسم البكاء كما قسم المعرفة وقد حفل أبوه كذلك من قبل فقال: فان سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا له جزاء إلا الدمعة، فان الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى في أمة لحرم الله تلك الأمة على النار.
وقد ربط محمد الباقر ع البكاء بالذكر صراحة فقال:
الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر.
أي أن البكاء هو علامة متميزة من علامات الزهد، وهو يصفي القلوب، ويطهر النفس من الذنوب، وهو في إطلاق عنانه في المناسبات الإنسانية، الفجائعية فيض رحمة.
وهكذا كان الشريف الرضي تفيض نفسه عطفا ورقة وحنانا في كل مشهد انساني مأساوي، وفي كل ذكرى مؤلمة. لقد سمت نفسه بالتفجع، وتحررت من الغلظة والقساوة، فأصبحت تطير وتحط عند كل ذكرى، وقرب كل طلل.
ولم تكن روحه المتفجعة، لتستغرق في الانفعال الحزين المجرد، والذي قد يصيب البسطاء الطيبين من الناس، رقيقي الاحساس، بل كانت تغتذي من الحس التاريخي، لأن كل ظاهرة مرئية تحت بصر الشريف الرضي كانت تثير فيه الذكريات، والحدثان، وما جرى للناس، وللحواضر، وللأمكنة، من تغيير.
لقد انتبه بعمق إلى حركة الزمن في جدلية البقاء والزوال، مكتنها تلك الجدلية من أعمق أعماقها، ومن أول نقطة فيها، فعظمت نفسه، وتغربت، لأن الأمكنة ما بين نشوء وزوال، لم تكن قادرة على أن تستوعب جسمه الذي حمل روحا تطير دوما نحو العلى والأعالي، لكنها تسكب الدموع عطفا ورحمة، حتى محيت العيون من البكاء، كما قال:
محا بعدكم تلك العيون بكاؤها * وغال بكم تلك الأضالع غولها فمن ناظر لم تبق إلا دموعه * ومن مهجة لم يبق إلا غليلها دعوا لي قلبا بالغرام أذيبه * عليكم وعينا في الطلول أجيلها الاغتراب السياسي:
وسط الأحداث المروعة عاش الشريف الرضي، وشهد النزاع الدامي الطويل وامتلأت نفسه بالصور المرعبة، فمن خليفة يخلع ويسمل، إلى أمير يحتز رأسه، ومن والد تصادر أملاكه ويسجن، إلى صديق ينكب.
فما هي ردود فعل الشريف الرضي، وهو ما عليه من حسب ونسب؟.
فالشريف الرضي المولود في جانب الكرخ من بغداد، والذي ينتمي إلى أسرة عريقة في الحسب والنسب، وفي المجد. كان يرقب السلطة، وهو يحمل على هامه مجدا عتيدا راسخا. كما أنه كان يرقب البلبلة بعين انتمائه العربي الأصيل.
إنما بسبب مجده التاريخي، وعروبته نشأ اغترابه السياسي، وهو اغتراب الثوري الذي سئم الزمان المخادع، وأحابيله وغرائبه، محتفظا بروح التحدي والمقارعة، على ما هو عليه من قلق، وقد أبان عن ذلك مبكرا في قوله:
سئمت زمانا تنتحيني صروفه * وثوب الأفاعي أو دبيب العقارب مقام الفتى عجز على ما يضيمه * وذل الجرئ القلب إحدى العجائب سأركبها بزلاء إما لمادح * يعدد أفعالي وإما لنادب إذا قل عزم المرء قل انتصاره * وأقلع عنه الضيم دامي المخالب وما بلغ المرمى البعيد سوى امرئ * يروح ويغدو عرضة للجواذب وما جر ذلا مثل نفس جزوعة * ولا عاق عزما مثل خوف العواقب ألا ليت شعري هل تسالمني النوى * وتخبو همومي من قراع المصائب إلى كم أذود العين أن يستفزها * وميض الأماني والظنون الكواذب حسدت على أني قنعت فكيف بي * إذا ما رمى عزمي مجال الكواكب وما زال للانسان حاسد نعمة * على ظاهر منها قليل رغائب وأبقت لي الأيام حزما وفطنة * ووقرن جأشي بالأمور الغرائب توزع لحمي في عواجم جمة * وبان على جنبي وسم التجارب إن تطلع الشريف الرضي إلى مجال الكواكب يعبر عن آماله الكبرى، التي لم تكن مجرد كشف حال بسموه وعزه، بل كانت تطلعا سياسيا خدمه بكل طاقاته الروحية والشعرية، وبكل مزاياه السياسية والاجتماعية.
في البدء ثمة حقيقة شاخصة في شعر الرضي وهي اعتزازه بعلو مكانته وشرفه، وما المصائب والهموم التي حلت به إلا الثمن الذي لا بد للشرف من تقديمه، وقال في أبدع تعبير:
وضيوف الهموم مذ كن لا ينزلن * إلا على العظيم الشريف ولم تكن افتخارات الشريف الرضي معزولة على الأخلاقيات الاجتماعية، بمعنى أنه لم يتناول افتخاره على نحو شخصي فقط، بل هو يقرنه دوما بالقضية السياسية والأخلاقية التي استحوذت على ذهنه ونفسه استحواذا تاما.
فهو إذ يعتز بكرامته وكبريائه وحريته وعزته، يعلم الآخرين أيضا الاعتزاز بالكرامة، ورفض الذل. وتأخذ أشعاره في ميدان مكافحة الذل وعاره مكانة الحكم والمأثورات الغالية.
فهو يقول:
وموت الفتى خير له من حياته * إذا جاور الأيام وهو ذليل وكذلك يقول:
وكل فتى لا يطلب المجد أعزل * وكل عزيز لا يجود ذليل و:
لا تخلدن إلى أرض تهون بها * بالدار دار وبالجيران جيران و:
الحر تنهضه إما شجاعته * إلى الملم وإما خشية العار وتتناثر في قصائد الرضي درر الحكم باتجاه نشر مفاهيمه عن الحرية والكرامة، والشجاعة، ونبذ التزلف والخضوع، لكنه، وبقدر ما يتعلق الأمر به، كان يخاطب نفسه بصوت عال كثيرا مذكرا نفسه بالمعنى الخاص لدوره في الحياة. فهو الذي قال: